مسرحية: آهـ... أيتها العاصفة

عبد الرزاق الربيعي – مسقط

 

" ممثلة ترتدي ثياب الآلهة " ننكال تظهر على المسرح وهي تراجع دورها قبل وصول المخرج "
الممثلة   : أواه يا مدينتي ، يا معبدي آه ...
               إن صوتي لا يساعدني هذه الليلة...
               لقد بح من العويل .. فأنا كما قال أحد الشعراء " يجرحني ضوء المصباح " ... نعم يجرحني ضوء المصباح يا عاصفة الخراب
               ( تغني ) أواه يا مدينتي ... يا معبدي ... شردني العويلُ والطاعون والوقت الرديء ...أواه يا عاصفة الخراب ...   (تتوقف عن الغناء )
               نعم عاصفة الخراب التي أتتْ على كل شيء ولم تترك لنا سوى أرواح ٍ مهدمة ٍ ... وقلوب ٍ متورمة ٍ أثقلتها الجراح    ( تتطلع  إلى صورة صغيرة في قلادتها )
               هذه صورتـُه يضحك ْ... هكذا هو دائما ً حتى بعدما هبّت العاصفة ... عاصفة الموت ِ والنار ِ لتحرق كل أشجار المدينة وتفزع العصافير النائمة َ تحت ظلالها ... وصغيري    كان أحد هذه العصافير ... مازلت أتذكر ضحكتـَه ، إلتماعة َ
              عينيه ِ ...
               ( تمسك كتابا ... تقرأ ...)
               كانت أور ُ عاصمة َ سومر َ وعنوان رفعتها ، حكمها الملوك القمريون أنصار ( نانا ) إله القمر ، وكانت جموع ُ العيلاميين خارجها تستولي على مدن ِسومرَ واحدة ً تلو الأخرى حتى سقطت ْ جميعها بمعونة ِ الإله ( أنليل ) إله العواصف ِ الذي أراد أن ينقل صولجان الملوكية من أورَ بل      من سومرَ كلها إلى مكان ٍ آخرَ .
المخرج    : (مكملا ً) وعصفت بأور عاصفة ُ ( أنليل ) الغاضبة ، وتوارى الثور الوحشي فيها عن معاقلِهِ وخلفَ أنواره ِ وحضائرِه ...
الممثلة    : هذا الكتاب يتحدث عن زمنِ مسرحيتنا لهذه الليلة،(تضحك )
المخرج    : (وهو يدخل ) أراك ِ تضحكين ... هل أنتِ منشرحة ٌ لهبوب عاصفة الليلة ؟
الممثلة    : شر العواصف ما يُضحك عزيزي المخرج ... هل حدث َ تغيير ٌ في زمن العرض ؟
المخرج     : لا ... ولكن الجمهور لم يعد ذلك الجمهور ... إنه يهرب من بوابة ِ المسرح ِ حالما يقرأ عنوان المسرحية ِ وزمنها ... و...
الممثلة    : وربما يعرب من صورة بطلتِها ..
المخرج    : لا ... لا تقولي هذا فما تزالين َ نجمتهم المفضلة ...
الممثلة    : لقد غطت ْ سحب الحرب هذه النجمة ،
المخرج    : السحب ُ تنقشع وضوءُ النجوم يبقى سرمديا ً
الممثلة    : أنتَ تتحدث عن سحب الله ، وأنا أتحدث عن سحب العالم الجديد السحب التي أمطرت ْ علينا نيرانا ً التهمت كل شيء ... الجسور والشوارع َ والبناياتِ ، الأشجار َ والبيوت َ والبشرْ
المخرج : أتعرفين لماذا طلبت ُ حضورك ِ هذه الليلة َ مبكرة ً قبل مجيء الممثلين ؟
الممثلة    : هل تريد سحب الدور مني ؟
المخرج    : لا … ولكن لم يعجبني أداؤكِ في التمرين السابق … إنك تنهارين َعلى المسرح بينما يتطلبُ منك الدور أن تحزني وتتألمي لكن يبقى ضوء ٌ خفيفٌ يشّع في عينيكِ وملامح ِ وجهك ِ …هذا الضوء ُ هو الذي يجعلنا نستمر .
الممثلة    : والعرض يستمر … ( تضحك )
المخرج    : لنبدأ ( بروفاتنا ) وفق تلك الملاحظة ، تابعي معي دوركِ بعد أن أنتهي من دور ِ الراوي
              ( يغير من لهجته ) حين َهبت ْ عاصفة ( أنليل ) في معبده في مدينة ِ( نـُفـّر) ترك العاصفة تزمجرُ في المداراتِ ، توارتِ الراعية ُ الأبدية ُ لحقول ِ الفردوس ، وتركتْ العاصفة تجتاح سومر و أور .
الممثلة    : ( أنليل ) عن معبده ِ اختفى و( ننليل ) عن مضجعها اختفتْ ، و( نانا ) احتجب َ خلف تراب العاصفة ... خلف الأسوار ِ ، وفي قصوره المحصنة ِ التي لا عدد لها ... وظلت ِ العاصفة ُ تزمجر عاتية ً في المدارات تلهو بالأرجاء تهشـّم سيقان َ القمح ِ والورد ِ وتعصر النهار َ ولاشيء سوى أعمدة الدخان فلا شمس َ ولا قمر ولا رائحة ً للرجاء ... لا رائحة للرجاء ... لا رائحة
المخرج    : ( يعود إلى طبقته الأولى ) ستوب ... أريدُ انفعالا ً أقل .
الممثلة    : كيف ؟! كيف تستطيع ُ الذبيحة أن تدوزن صرختها ؟
المخرج    : لكنك ِ ممثلة .
الممثلة    : ممثلة ، لكنني امرأة ٌ خارجة ٌ من زمن ِ الموت ِ المجاني ، والتشّرد ، والهرب ِمن شارع ٍ إلى شارع عندما كانت الطائرات ُ تتعقبنا في بيوتنا ، تحت أغطية نومنا ، تحت جلودنا ، وفي الختام استهدفت ْ قلبي عندما مضى ...
المخرج    : ( مقاطعا ً) أرجوك لا وقت لدي ّ... لا تكرري هذه الحكاية المؤلمة ... كلنا فقدنا أحبتنا وحتى أنفسنا ... ولكن ... ولكن  ..( يتهرب بعودته إلى قراءة النص ) :
              وخيّم الحزن ُ على ( أور ) فأنشدتْ ننكال مراثيها ...
الممثلة    : أواهُ يا مدينتي ... يا معبدي
                 شرّدني العويلُ والطاعون ُ
                 أواه ُ يا عاصفة َالخراب والجنون
                 ماذا جنتْ بحق ( أنليل ) زهور البلد ؟
المخرج    : يا أور يا مدينتي ... يا معبدي ... أواه يا أيتها المدينة ... أواه يا أيتها الشوارع ُ الحزينة , بأي حق ٍهجمت رياحك السمينة ؟
الممثلة    : بأي ّحق ٍ ... بأي ّ حق ٍ استهدفت قلبي عندما مضى ؟         ( المخرج يعترض بإشارة منه )
              لا تعترض... مأساتي لا تقل عن مأساة ِ ننكال .
المخرج    : ننكال فجعتْ بمدينة .
الممثلة    : وأنا فجعت ُ ببلد ، فجعت بشوارعنا الممتدة مثل أوردة ٍ سوداء ، فجعت بغاباتنا الخضراء َ وقد تحولتْ إلى هشيم ٍ وحطب ٍ للمواقد الجائعة ...لم أفجعْ بولدي فحسب ، فجعت ُ بأخوتي وجيراني وجلساتنا الجميلة ... فجعت بذكرياتي مع أصدقاء الصبا الذين رحلوا إلى أين ؟! لا أدري ..
               (تجلس .. تغني ) :
              (أدير العين ما عندي حبايب
               غريبة الدار بس وين الكرايب
               يشوفوني ويحنون
               على حالي يونون
               أويلي أشكثر أتحمل مصايب )
المخرج    : رغم ذلك ، إن ننكال آلهة ٌ وفجيعتها فجيعة ُ آلهة
الممثلة    : وأنا أم وفجيعتي فجيعةُ جميع الأمهات اللواتي اغتالت أبناءهن العاصفة , ننكال أسطورة ٌ وأنا حقيقة
المخرج    : طالما الأمر كذلك ؟فلماذا وافقتِ على تمثيل دورها ؟
الممثلة    : ومن قال َ لك أنا نقيضها ؟
المخرج    : إذن لماذا تستهينين بها ؟
الممثلة    : من قال هذا الكلام ... ؟!
                أنا لا أستهين بها لكن في نفس الوقت لا أستهين بمأساتي   الخاصة , بواقعي المؤلم .
               أنت تعرف أنني اخترت هذا الدور عن قناعة ٍ وحب .
               فننكال ماضيي وأنا مستقبلها ، وربما هذا هو سبب فشلي في   أداء دورها ...
              أتعرف ما هو أصعب دور يؤديه الممثل في رأيي ؟!
              أصعب دور هو عندما يؤدي دوره هو ،
              في ذلك الوقت يحدث تصادم ويصبح من الصعب السيطرة على المشاعر ..
المخرج    : لهذا كنت تنهارين وبأسرع وقت على خشبة المسرح ... على الممثل أن يتحكم بذاكرته الانفعالية ولا يأخذ منها إلا ما يحتاج له الدور كي لا يفقد زمام الأمور وعلى النحو الذي أنت فيه بأدائك دور ننكال وأنت تستذكرين ولدكِ
الممثلة    : إنه ولدي ...
المخرج    : أنا على يقين من أن أفضل خدمة تقدمينها له هي أن تطلقي صرخة ـ ننكال ـ ذاتها في فضاء الألم والأمل ... نعدها يعود كل شيء إلى نصابه ويرقص العالم بأقدام إضافية
الممثلة    : يرقص ...!! كان يحب الرقص ...حتى أن الفتيات كن ّ يتسابقن على الرقص معه ...كنت أرقصّه ...
              ( تغني ) :
               حجنجلي بجنجلي ...صعدت فوق الجبل ِ
               رأيت بدر البدور ... تحمل سلـّة النور
               تلعب بين الزهور ... وثغرها يبسم لي
المخرج    : حجنجلي بجنجلي ...صعدت فوق الجبل ِ
                رأيت سعف النخيل... يرقص يعلو يميل
                مع النسيم العليل ...ملوحا للسنبل ِ
الممثلة    : حجنجلي بجنجلي ...صعدت فوق الجبل ِ...( يتوقف الغناء ) وكان يضحك ... يضحك ... يضحك لي ، وعندما ينام ... تحرسه الملائكة ...
              ( تعود للغناء ) :
           دللول يا ولدي
دللول يا كبدي
قد كان يا ما كان
في غابر الزمان
كانت لنا زيتونة
وارفة الأغصان
 دللول يا ولدي
دللول يا كبدي
وجاءت المدينة
عاصفة مجنونة
فهدمت بستاننا
أحرقت الزيتونة
دللول يا ولدي
دللول يا كبدي ... )
( و دللول يا لولد يبني دللول ...عدوك عليل وساكن الجول ، ويمه... يمه راسي وجعني وكومي شديه ...شد  الغريبة ما نفع بيه )
وعلى هذا الصوت كبر ...كبر ، واسوّد شاربه ، دعاه البيان إلى الموت ... ودعني ومضى بعيدا ً بعيدا ً موغلا ً في ليل المعسكرات وزحمة القذائف ...
تأخرَ ، انتظرت ،
تأخر أكثر ، صبرت ،
تأخر ... ذهبت ُ إلى الجبهة ِ أبحث عنه
المخرج    : ( ينسى نفسه ) وهل رأيته ؟
الممثلة    : نعم ولكن من بعيد ... كان يركض صوبي ... وأنا ...
المخرج    : ( على جانب المسرح ) أنا كنت أركض بالاتجاه الآخر عندما جاؤوا ليقتادوه إلى دوائر الشك والسؤال ... وماذا أفعل غير ذلك َ ، لقد نصحته لكنه كان يرفض الحرب
-    لماذا لا تحارب ؟
* لأني أكره الحرب
-    ولماذا تكره الحرب ؟
* لأني أحب الحياة
-    إذن أنت هارب من الحرب ؟
*  ولماذا أحارب ؟  ... ومن أجل من ؟
حاصروا البيت ، بل الحي  ّ كله ... أخذوه وغابوا ... وبعد عام  عاد ، لكنه ليس كما ذهب ، إنما عاد جثة محظور البكاء عليها والمأمور الذي سلمني إيصال استلامها طالبني بثمن الرصاص الذي أطلق علها ...سلمته تمن قتل أخي ومضى وقد حبس دموعي وصراخي الخوف الذي كان ..
الممثلة    : على أشده عليه وهو يركض بين القذائف صوبي ، آه يا ولدي ... آه يا كبدي ، ( الولد نام يمه يمه )
المخرج    : ( ينتبه إلى نفسه ) ... أوه ، ماذا أجرى لي أنا الآخر ؟ والآن يا عزيزتي دعينا نكمل
الممثلة    : مأساتك ؟ أم مأساتي ؟
المخرج    : أرجوك لا وقت لذلك ودعينا نكمل المشهد فالممثلون على وشك الوصول وليس من اللائق أن نستقبلهم بذلك
الممثلة    : وليكن ... ليسمعوا صرختي ، مرثيتي ، لماذا يفضلون مراثي ـ ننكال ـ على مراثي أم ٍ لابنها الوحيد
المخرج    : لأن الجمهور يخرج من بيته وفي ذهنه حكاية ُ ـ ننكال ـ والعاصفة التي هبت على ـ أور ـ ، غدا ً سيأتي مؤلف ويدوّن مرثيتك ، والآن هيا يا عزيزتي إلى وصلنا ؟
               ها ... نعم ...نعم تذكرت ( يقرأ ) :
               وخيّم الحزن ُعلى أور وأنشدتْ ننكال مراثيها ،
               ( للممثلة ) ثم تغنين ... أواه يا مدينتي ، يا معبدي ، بعد ذلك أنا أقول :
               لم تكتف ِ ننكال بهذا ، بل ذهبتْ إلى ـ أنليل ـ إله الهواء والعواصف والرياح
الممثلة    : ( مكملة ) سلاما ً أيها الإله العظيم ...
                يا من أرسل عواصفه تزمجر
                خلف الأسوارِ وفي المدارات ْ
المخرج    : ( بدور أنليل )
                لقد سمعت صراخك ما بين الخرائب في أور ،
                قولي ماذا تريدين ؟
الممثلة    : ( تخرج عن الدور) : سيدي الآمر ، أريد أن أرى ولدي ، لقد مضى منذ شهرين ولم يعد بإجازة
               ( تستدرك ) آسفة ، آسفة ...
               ( تعود إلى الدور) أيها الإله المعظم ، لقد سقطت مقدسات أور وتحولت ـ أورـ إلى خراب ... فإلى متى ستظل عاصفتك تدّوي في الأفق ؟!
المخرج    : لتحترق ـ أور ـ فلقد قررت نقل صولجان الملوكية ِ منها ، وهاهم العيلاميون يعتلون أسوارها
الممثلة    : أتوسل إليك أيها السيد الآمر أن تمنحني لحظة أرى بها ولدي ـ عفوا ًـ أتوسل إليك أن تكف عن تدمير أور
المخرج    : لقد انتهى حكم الملوك القمريين  أنصارـ نانا ـ إله القمر
الممثلة    : أيهون عليك أن ترى معبدي في ـ أور ـ وقد تحول إلى خراب ، حيث دفع هشيم الريح بعواصف المطر ، وغرقت ـ أور ـ بالجوع
المخرج    : يهون علي ّ ... وسأطلب من الريح السماوية الهائلة أن تمحق ـ أور ـ
الممثلة    : ( مع نفسها ) كان القصف شديدا ً والقنابل تسقط هنا وهناك ... ومن بعيد لوّح لي ولدي الحبيب ... جاء راكضا ً، لكن القصف كان شديدا ً ، صاح الآمر به عدْ إلى موضعك ، أطاع الأوامر ... القصف شديدا كان ، دوّى انفجار هائل ، وضعت يدي على قلبي ، سقطت قذيفة على موضع ما ...سقطت ْدمعة ٌ كبيرة كبيرة أغرقت روحي ... حين هدأ القصف طلبت أن أرى ولدي
المخرج    : ( بانفعال ) ما هذا ؟
الممثلة    : ( تنتبه إلى نفسها ) بالله عليك لا تفعل هذا يا أيها الإله المعظم ، إنني أبسط قلبي أمامك باكية ويشهد على دموعي
              ـ آنو ـ إله السماء
المخرج    : كفي عن هذا يا ننكال ، كلامك يجعلني أعجل في الأمر ،
                يا إله النار ، أرسل الريح العاصفة واجعلها تهدر في أرجاء ـ أور ـ لتطرد الريح الطيبة وتحل محلها ، فتشيع الخراب في ـ أور ـ
الممثلة    : لا ...لا تفعل هذا يا إله النار ،
                لا تصغ لكلام ـ أنليل ـ
               إنني أرى شعب( سومر) يقف عند الأفق ،
               يجمع شتاته الذي تناثر أمام النيران مثل الحجر الميت ،
               اسمع يا ـ أنليل ـ ، لن يمس الخراب أور ولن تفنى من على وجه الأرض ، ولن تستطيع عاصفتك ولا قرارات ـ انوـ أن تدمر ـ أور ـ
المخرج    : لتقيد العاصفة الغليظة شعب سومر ، ليجرجر الناس إلى ساحات الاحتفال ... لتتساقط الساحات ثكلى ، ليأتِ الجميع وعلى أفواههم أغنية العاصفة
الممثلة    : (تغني ) الولد نام يمه ، يا يمه .....الولد مات يمه ..... يا يمه ( تجلس )
المخرج    : ما هذا ؟
الممثلة    : أغنية العاصفة ، العاصفة الغليظة ، الساحات الثكلى ... كلام يهز المشاعر
المخرج    : اجعلي هذا الكلام يهزّ مشاعر الجمهور ...
الممثلة    : أتعرف ماذا كانت مشاعري عندما تركت وحدته العسكرية، لقد كانت مشاعري، مشاعر أم كاملة الثكل ،
               سارت بي الحافلة العسكرية وأنا أتحسس صرخة أم هذا النعش ، الذي قال عنه السائق أنه صندوق تمر بعثه الآمر ولم أصدقه ... هذا النعش الذي جاء لصق طريقي .. لصق حزني ، لصق دموعي ... لكأنه سيظلّ جرحا لصيقا ً بي ّ ، والجراح اللصيقة بالذاكرة أقسى وأمرّ أنواع الجراح ، اسألوني أنا العريقة بالجراح
المخرج    : أستحلفك بالله أن نستمر بالتمرين ، لأن الوقت بدأ يدركني ، فكفي عن كلامك هذا ... وأعدك بأنني سأخصص عرضا ً كاملا ً لقصتك ِ
الممثلة    : اسمع يا أنليل ... لن يمس الخراب أور ، ولن تفنى من على وجه الأرض ، ولن تستطيع عاصفتك ولا قرارات ـ آنو ـ أن تدمر أور
المخرج    : لتقيد العاصفة الغليظة شعب سومر ،
                ليجرجر الناس إلى ساحات الاحتفال ، لتتساقط الساحات ثكلى    ( إضاءة ... تضاء و تطفأ ... قصف )
               يا إله النار ادفع بكتل الأجساد البشرية في فرن الرصاص والنحاس ، لتذوب كشحم الخراف على أتون الشمس الساطعة ، وليصبحوا كخرق ٍ بالية ،
               مرّغ أفواههم بالتراب ، أحفرْ لهم قبورا ً جماعية ً وادفنهم أحياء ، لتجعل المصاب منهم لن يسعفه أحد ، ليرتفع صراخهم كصراخ الأمهات في ساعة الولادة والاحتضار
الممثلة    : يا ويلتاه ،
               إنني أرى الخراب يفتك بأور
               وأنا كطائر ٍ يخفق في السماء وفي الصحراء أصرخ بالعاصفة : ولـّي .
               لكنها تقدمت ...
               الدموع أغرقت مدينتي ومعبدي ، إنني أرى الذين ألقوا أسلحة الآلهة جانبا ً لم ينالوا الرحمة ولا الطعام فسقطوا صرعى على الأرض ...
               الآباء هربوا عن الأبناء وعلى أرصفة المدينة مرغوا الأزواج على التراب ... وضربوا الأطفال ، والضرائب فرضت على الجميع فهرعوا مذعورين
المخرج    : ( مكملا ً) وناحت النساء خلف البيوت والأسوار ِ، دمرت العاصفة المدينة َ ولم تعد أما حنونا ً وكنعجة ٍ توارى عنها راعيها الأمين
الممثلة    : وهربتْ الأبقار من حضائرها و اختفى بعلها الحنون وأغنامها هربت واختفى راعيها اليافع الرحيم وغمر المطر قنواتها وجفّ الماء الزلال
المخرج    : واختفى الفلاح ولم تعد الحقول تنتج القمح وملأ الحقول الدغل ، والحدائق التي كانت عامرة ً بالعسل والزهور ملأتها عناقيد الأشواك...
الممثلة    : و الجنائن الطافحة باللذة ِ  تحولت مصهرا ً يقذف بالموت
المخرج    : اختفى الرجال كطير سقط من السماء جريحا ً، هوى الرجال ُ في المنحدر العميق وتبعثرت ْ الحلي والجواهر وركضت ْ .. ننكال ...ركضت ْ ركضت ْ... صرخت ْ
الممثلة    : أواه يا مدينتي ... يا معبدي
المخرج    : وبعد أن انقشعت العواصف ، ظهر ـ نانا ـ في السماء مثل ثور ٍ جريح ( يرتدي الرداء الأصفر )
الممثلة    : ويحك نانا
المخرج    : كفي عن لطم خدك ونفش شعرك وشق ثيابك وصراخك
الممثلة    : لقد هوتْ مقدسات ُ أور ، وذبح َ البرابرة شعبك ، ويحي لا معبد لك ولا لي ... ولا مدينة لك ولا لي ... لقد تشرّد القوم وأصبحت أور خرابا ً ... ويحي مثلي مثل بقرة ٍ أضاعت الحضيرة ... أنا السيدة الكبيرة مثلي مثل راعية تهاوت من أعلى الأسوار جريحة ، فقدت راحة البال وطردوني من المدينة ،
               ويحي أنا السيدة ُ ،
               لا يحتضنني مأوى وأهيم كالغريبة ،
               أواه يا أسوار أور الغارقة في السيل العرم ،
               يا بيتي ...يا معبدي الخاوي ... يا مدينتي الصامتة .. لقد جف ّ دم القرابين وامتلأ معبدي بالعاصفة ، أواه يا معبدي العظيم الذي كان يميد بالحشود واليوم يملأه صفير الرياح ... اواه يا مدينة الركام ن يا مدينة الضياع ، أيتها المدينة الغارقة في الهاوية ...
               يا مدينتي ... يا مدينة الخراب والموت  التي عصفت بها الرياح الشريرة العاتية ... أواه يا مدينتي يا معبدي
المخرج    : ستقيمين هنا سيدتي كما يحلو لك المقام ... فسأعيدها عامرة يغمرها الضوء ، مدينتك التي هدّها الطوفان ستعود ثانية ً ، ستعود أنوارك ومياهك العذبة ،
               ومعبدك الذي غرق سيعود ، أنت وشعبك المشرّد ستعودون
الممثلة    : صدحت الموسيقى في الآفاق ورقص الناس في الساحات ، وأثقلتْ صدرك الأوسمة والألقاب يا نانا ...
               صدحت الموسيقى في الآفاق ورقص الناس في الساحات، وسرت على خوّذ الجماجم المهشمة ... ولوّحت للقطعات المحطمة بابتسامة شاحبة ٍ وأصابع راجفة خائفة
المخرج    : لماذا تتكلمين معي بهذه النبرة الحادة
الممثلة    : لأنك أنت الذي قضيت على أور ، أنت الذي نكّل بأبنائها في ليل المعسكرات ... أنت الذي جلبت الويلات لكل بيتٍ في أور ... وزرعت البكاء في كل شارع ... وامتلأ معبدي بخان العاصفة
المخرج    : ما هذا الكلام الذي تلهجين به ؟ لقد عادت أور من جديد
الممثلة    : عادت أور في الخطب والبيانات والشعارات الزائفة التي ترفق على واجهات المباني ..ثم حتى لو عادت أور من جديد فمن يعيد لها وداعتها ؟ ... زمنها الهادئ ...
               أنظر ألا تراها كميناء ٍ مهجور غادره الأهل والبحارة ...
                قل لي مَن ْ ... مَن ْ ...من يزيح عن سطوحها سخام الحرب مَن ْ ؟
المخرج    : لماذا لا تصبين نار غضبك على رأس ـ أنليل ـ ذلك السافل الذي أرسل العاصفة البغيضة والرياح الشريرة
الممثلة    : ومن حرّك ربكة ـ أنليل ـ الراكدة سوى أحجارك التي جرجرت أور لكل هذه المآسي
المخرج    : لا ترفعي صوتك أيتها السافلة ... وإلا حكمت عليك بالنفي من أور وإلى الأبد
الممثلة    : لقد نفيّ شعب أور وتناثر أمام ألسنة النيران ... فما قيمة أن تفكر بنفييّ الآن ؟!
               ( تغير من لهجتها )
               يا أيتها الآلهة العظام  ماذا جنت أور حتى تعاقب هكذا ؟ ما الذي فعله أهلها ؟!
المخرج    : تلك مشيئة الآلهة
الممثلة    : لا تشرك الآلهة العظام في خيباتك
المخرج    : أية خيبة ... قلت لك ستعود أور من جديد
الممثلة    : بهذه البساطة ... أنا أعرف لماذا تريدها أن تعود ، لكي تبسط سلطانك عليها ثانية ً ، لكي تحطمها وتقودها إلى خراب جديد ... أنظر إلى وجهك في المرآة ... ألا ترى بأنك تتهاوى ؟! أجل ... إنك تتهاوى ... تتهاوى ، وسرعان ما ستجد نفسك وحيدا ً في القاع
المخرج    : عيناك اللتان أنهكهما العويل وجف ّ فيهما البريق هما اللتان تهاوتا مثل أعمدة معبدك في أور
الممثلة    : اخرسْ ولا تذكر معبدي بسوء ... صدحت الموسيقى في الآفاق ورقص الناس في الساحات لأن الحرب انتهت ، وقـّعوا على نهاية النزيف إلى إشعار آخر ، وأنا ... صدحت الموسيقى الجنائزية خلف محنتي ... عندما وصلت ُ على مدينتي أصرّ سائق الحافلة العسكرية أو شاحنة الموت أن يوصلني إلى البيت ... كنت أحدثه عن ولدي الذي طال غيابه ولطيبة ِ قلب الآمر الذي رق ّ لحالي وأوصى السائق الذي خرج من القصف بإيصالي إلى البيت ... رغم انه حرمني من رؤية ولدي للوهلة الأولى قبل القصف ... صدحت الموسيقى الجنائزية خلف محنتي ... ثم قاموا  بتكريمي وأعطوني ألقابا عدّة ، لكنهم لم يمنحوني ضحكة ولدي ... ( بانفعال ) أيها الآمر البغيض لماذا لم تتح لي فرصة رؤية ولدي قبل القصف للمرة الأخيرة ؟
المخرج    : هذا خارج  عن النص والحركة الموضوعة
الممثلة    : هذا هو النص ذاته والحركة الملائمة
المخرج    : لابد بأنك جننتِ
الممثلة    : بالفعل جننت لأنك تمنعني عن قول ما أريد قوله
المخرج    : إلا أنك قلت ِ كل شيء
الممثلة    : إلا... مأساتي
المخرج    : ( بحذر وخوف ) مأساتك ؟ أرجوك ِ ... الوقت غير مناسب والممثلون سيصلون بعد قليل
الممثلة    : وماذا في ذلك .. حتى وإن وصلوا ... ثم أريد أن أعرف لماذا أنت تمنعني عن قول مأساتي ؟!
المخرج    : قلت لك من قبل ... إن هذا الذي تقوليه خارج النص
الممثلة    : وأنا أقول لك بأن هذا هو النص ، لكنك خائف
المخرج    : خائف ؟ ( ضحكة ) وهل أبقيت ِ شيئا ً كي نخاف عليه
الممثلة    : أليس لك مأساة ؟
المخرج    : وهل أبقت العاصفة أحداً منا دون مأساة ... صدقيني إن مأساتي أنا الآخر ليس بأقل من مأساتك ... لكن لا نستطيع أن نقول ذلك للجمهور وفي هذا العرض المخصص لمأساة ننكال ... وأعدك ِ بأن مأساتك ستكون في عرض آخر
الممثلة    : لكن ما الخسارة في أن نجري تمرينا ً عليها الآن طالما الممثلون لم يحضروا بعد ؟! فربما نجد فيها النهاية الملائمة أكثر لمأساة ننكال ، وإذا كان العكس فإن ما نقوم به مجرد تمرين
المخرج    : ولكن ... ألا يكون ذلك خارج سياق النص الذي كتبه المؤلف؟
الممثلة    : أرجوك بلا لكن ... وستجد كلّ شيءٍ يصب ُّ في روح النص والعرض معا ً ثم إنه مجرد تمرين ... تمرين لا غير
المخرج    : حسن ٌ .. ولكن من أين نبدأ ؟
الممثلة    : ما عليك سوى أن تشاركني المشهد بتمثيل دور السائق عبد الزهرة
المخرج    : مَنْ ؟
الممثلة    : عبد الزهرة
المخرج    : عبد الزهرة ... ولكن كيف ؟!
الممثلة    : فقط ساعدني في تهيئة المشهد وسترى كيف
المخرج    : حسن  
                
                ( أصوات قصف )

عبد الزهرة    : هيه ... لقد وصّاني الآمر أن أوصلك ِ حيثما تشائين ، بل وأصر الآمر أن أوصلك إلى البيت ، ما هذا؟!   أما زلت ِ واقفة ؟! إلى أين تطيلين النظر ، هذا المكان خطر ٌ عليك ِ
الممثلة    : أنظر إلى هذا المكان ، أما كان بالإمكان أن يتسع لغير الحرب ؟!
عبد الزهرة    : الحرب هي الحرب ، في هذا المكان أو غيره وقد سكنت ْ نفوسنا ... هيّا اصعدي ( يغني )
الممثلة    : ( تصعد ) لقد كان صاحبكم هذا قاس ٍ بعض الشيء
عبد الزهرة    : مَنْ أنليل ؟
الممثلة    : أرجوك هذه المرة دعنا نكمل المشهد ... فأنت الآن السائق عبد الزهرة وليس المخرج
عبد الزهرة    : لا أستطيع ... وربما أفشل في هذا الدور
الممثلة    : حاولْ ... ثم أنه تمرين ... هه .. هل كنت تعرفه ؟
عبد الزهرة    : مَنْ الآمر ؟!
الممثلة    : لا ... ولدي محمد
عبد الزهرة    : منذ وقتٍ قريبٍ وبالتحديد عندما التحقنا إلى الجبهة في المرة الأخيرة سوية ً ، لقد إلتقيته في القطار ... كان جالساً بجانبي من جانب النافذه .. إنه شابٌ رائع ... وكان يتحدث وأنا أصغي له كالأبله ... أذكر أنه بدا الحديث عن سيد الشهداء وكنت أقاطعه وأسمعه بعض ما أحفظ من مراثي لسيدنا الحسين
               ( مرثية : جابر يا جابر ما دريت  ...إلخ )
               وفي الحقيقة أنا ما كنت أعرف عن الحسين سوى المراثي واللطم والبكاء ، أما ولدك محمد ـ ونعم الابن ـ فقد حدثني كثيرا ً واخبرني بأن الحسين حين وقف وحيدا ً بأرض الطف ...قال ( إن لم يكن لكم دينا ً وكنتم تخافون الميعاد .. عودوا إلى أنسابكم ... كونوا عربا ... كونوا أحرارا ً في دنياكم ) لقد حفظت ذلك عن ولدك ـ ونعم الابن إنه مثقف ـ
               وحين كنا نصل إلى أي مدينة ٍ يمر بها القطار كان يخبرني عن تاريخها .. فبعد أن تجاوزنا مدينة الديوانية بقليل ٍ قال لي : أنظر هذه آثار مدينة ـ نـُفـّرْ ـ
الممثلة    : نـُفـّرْ ؟
عبد الزهرة    : يعني ـ عفك ـ ... وحين وصلنا السماوة قال هنا كانت حضارة الوركاء ... ومازالت باقية وسيبقى جلجامش خالدا فيها لأنه أدرك أن الخلود لا يأتي إلا بالعمل الطيب ... وأخبرني عن حضارة أور عندما وصلنا إلى الناصرية ... وحدثني عن حبيبته .....
الممثلة    : إفتخار ... اسمها إفتخار ... تموت عليه ويموت عليها ..
عبد الزهرة    : لا أظن ذلك ... سيموت من أجل قضية أخرى...
               هيّا إلى هذا الحد ويكفي ... سوف يصل الممثلون ... لا حول ولا قوة إلا بالله
الممثلة    : أرجوك أكمل ْ... يمه عبد الزهرة أكمل ... وماذا كان يقول أيضا ً ؟
عبد الزهرة    : هه ... كان يقول .. لا أتذكر ... هه .. تذكرت ... عندما وصلنا إلى مدينة البصرة وقف طويل ً أمام تمثال السياب وقرأ لي الكثير من قصائده التي يحفظها عن ظهر قلب ثم قرأ على روح السياب الفاتحة ..إقرأي معي .. (يقرأان الفاتحة )
الممثلة    : أتدري أن الأم أكثر البشر خوفا ً على ولدها ... هل والدتك على قيد الحياة ؟
عبد الزهرة    : نعم .. أمي امرأة كبيرة ... أما والدي فقد مات بالحرب عندما كانت الحرب حرب .. عندما كان الجنود يذهبون للقتال في فلسطين ..كان أبي يقول لي ـ بوصلة لا تشير إلى القدس باطلة وبقيت والدتي تعيلنا إضافة إلى راتب أبي التقاعدي القليل ... ولكن هذه الأيام صارت الوالدة تعمل بالتجارة ... نعم أم عبد الزهرة تعمل بالتجارة وتكسب المثير في السوق السوداء ، وقد غيرت اسمها من أم عبد الزهرة إلى أم ستوري
الممثلة    : هاه ... دلالة ..
المخرج    : إيه .. دلالة ..
الممثلة    : كان الله في عونها ... عن شاء الله تنتهي الحرب وتساعدها في تحمل أعباء الحياة ..
عبد الزهرة    : ( يضحك بشدة ) وإذا تنتهي الحرب ؟
                ( يضحك مرة أخرى ) ستنتهي هذه الحرب وتبدأ أخرى ... وربما نكون قد انتهينا نحن ،
               ( يغير الموضوع ) ولكن ألم يكن باستطاعتك أن تكلمي السيد الآمر في أن يعطيه إجازة  ويأتي معك ؟
الممثلة    : في البداية رفض . وبعد إصراري عليه وافق أن أراه فقط وطلب من أحد الجنود أن يحضر محمد من الفوج الأول ... ووقفت أنتظره أمام موضع الآمر .. وبعد أكثر مكن ساعتين رأيته يركض باتجاهي لم أستطع أن أميز ملامح وجهه ، غير أني أعرفه من خطواته ومن طريقة ركضه . حين رآني أخذ يركض أكثر ... ويركض ويركض بكل قوته ، وعلى وجهه ابتسامة وسؤال عن سبب وجودي هنا  وفي وحدته العسكرية ... كانت بي رغبة ٌ أن أضمه إلى صدري ليلق رأسه في حضني ويسبح في دموعي لأقص عليه كل الكوابيس والأحلام المريبة التي لازمتني منذ اليوم الذي غادر فيه البيت عند انتهاء إجازته الأخيرة ... كانت أحلام مخيفة ، مرة كنت أراه في بذلة عرس يخرج من جيوبها دم يملأ البيت ويغرقه ، ومرة كان يقف عند طرف سريري يفصلني عنه غبار أسود أشم فيه رائحة البارود ، تماما ً كما حصل لي عندما كنت أقف أمام موضع الآمر وهو يركض ... فقد سمعت صوت دويٍّ رهيب ورائحة بارود وغبار أسود كما هو في الحلم تماما ً ، عندها خرج الآمر من موضعه وهو يطيل النظر إلي ّ وإلى المكان الذي عصفت به القذائف وقال لي عليك أن ترحلي الآن فهذا المكان خطر عليك وسوف أبعث لك ولدك في أقرب فرصة مناسبة ، توسلت إليه أن أبقى لأرى ولدي إلا أنه زجرني بقوة ... بعدها سمعته يناديك .. وأنت الآخر كنت على عجل من أمرك وقد أنسيتني أن أعطي هذا الأكل لولدي ... ألا تأكل ؟ فأنت لم تأكل منذ ساعات طويلة
عبد الزهرة    : كلي أنت فليس لديّ شهية للطعام ... وها نحن على مشارف المدينة
الممثلة    : يمه عبد الزهرة .. ما هذا الصندوق الخشبي في الخلف ..؟ إنه أشبه بالنعش
عبد الزهرة    : ها ؟ هذا ؟ ... هذا صندوق تمر ... تمرٌ من تمر البصرة بعثه معي الآمر لأوصله إلى بيته
الممثلة    : تمر ؟
عبد الزهرة    : لقد وصلنا على ما أظن
الممثلة    : أجل ... لقد وصلنا فهذا هو شارعنا ... وذاك هو البيت الذي تقف ببابه النخلة التي زرعها محمد .. من هنا
عبد الزهرة    : هذا هو بيتكم ...أليس كذلك ؟
الممثلة    : بالضبط ... يمه عبد الزهرة ..سلّم لي على أمك
عبد الزهرة    : ألم تنسي شيئاً داخل السيارة ؟
الممثلة    : لا .. لا شيء سوى الأكل خذه لك
عبد الزهرة     : توقفي ...
الممثلة    : ماذا ؟
عبد الزهرة    : قبل أن ترحلي بودي أن أخبرك عن نفسي ... فأنا بالأمس حلمت حلما ً لا بد أن أقصه عليك ِ.. كنت فيه أقود هذه السيارة في الجبهة وكان معي أربعة جنود يجلسون في الخلف .. وكما سمعت ِ أنت صوتا ً مدوّيا ً أن أيضا ً سمعت وشاهدت غبارا ً أسودا ً ورائحة َ بارود وأشلاء من جثث تناثرت من فوق السيارة ... توقفت السيارة ونزلت منها ولم أجد نصفها الآخر وكان الجميع جثثا ً هامدة ً ... أخذت أتفحص وجوههم واحدا ً واحدا ً .. فأنا اعرفهم كانوا صحبتي ... بكيت  ... صرخت  .. وما نفع صراخي وبكائي عليهم ... وحين قررت أن أغادر المكان والغبار والبارود لمحت على الطرف الآخر من الطريق جثة ً خامسة ... كانت بدون رأس ... أصابتني الدهشة .. من أين جاء هذا الخامس وكيف لي أن أتعرف عليه وهو دون رأس .. بحثت عن الرأس فوجدته  ..رفعته عن الأرض .. أزحت عنه الغبار والبارود فوجدته رأسي .. إنه رأس عبد الزهرة السائق .. بعدها صحوت من حلمي على صوت قصف ٍ شديد صباح هذا اليوم وعلى صوت الآمر الذي قال لي : خذ جثمان هذا الشهيد الذي سقط طازج الجرح وخذ هذه المرأة التي تنتظر وأوصلهما إلى بيتهما معا .. أما الجثث الثلاث فاتركها ليوصلها غيرك ... هذا التمر ليس لأحد ... إنه لك أنت ... إنه جثة ولدك محمد
الممثلة    : هه ؟ لي أنا .. ليس تمراً ؟ محمد ... ولدي محمد ... يمه محمد إحجي وياي .. آني أمك ... إفتخار تسأل عليك وتكول محمد إتأخر يمته يجي ... ولك يمه ... يمه محمد ( تصرخ )
المخرج    : إلى هذا الحد ويكفي ... أشفقي على نفسك
الممثلة    : لا .. لن تمنعني أيها المخرج عن سفح دموعي على خشبة المسرح ، وعلى قمصان الجمهور الذي سيأتي ليستمتع بصوت ننكال وهي تنشد مراثيها على أنقاض أور ...
               ننكال فقدت معبدها وأنا فقدت ولدي محمد ... لا ... لن تمنع حنجرتي من الصراخ ...صراخ جميع الأمهات يا أنليل ... صرخة ننكال هي صرختي أنا
لن أرى الخراب يفتك بأور ... فأنا كطائر يخفق في السماء وفي الصحراء أصرخ بالعاصفة : ولـّي ...
أيها المخرج خذ نصّك ... وسأحمل مِعزَف ـ ننكال ـ لأغني قصتي ... عندما تحول معبدي في أور إلى خراب  ...
أواه يا مدينتي ... أواه يا معبدي ... أواه يا أور التي فقدت فيها ولدي ... أضعت فيها ولدي
( تنظر بشزر إلى أنليل ونانا )
يكفي هذا يا أنليل ... يكفي هذا يا نانا ... هذا يكفي يا أنليل ... كفاك هذا يا نانا
( تبقى تردد ذلك مع دخول الجثث من جميع الجهات ثم تصرخ )
يكفي هذا يا أنليل ( تمزق صورته ) كفاك هذا يا نانا
يمه محمد إحجي وياي ولك محمد ... يمه ...يمه محمد
( أغنية )
                        
                  ( انتهت )

 

عبدالرزاق الربيعي
صنعاء /1996

•    قدمت هذه المسرحية التي أخرجها الفنان المبدع :كريم جثير , ومثلها :الفنان العراقي علي الشيباني والفنانة اليمنية سحر الأصبحي للمرة الأولى على قاعة العفيف في 20/4/1996
      تلت ذلك العرض عروض أخرى في صنعاء.
•    قدمت أيضا من قبل فرقة مسرح الغربة في تورنتو بكندا و أخرجها كريم جثير أيضا ومثلها : سعيد كاكه يي , أمين الفضلي ,سهام الخالدي وشاركت في مهرجان –the ripple  effect- الثامن الذي أقيم في تورنتو –كندا في الفترة 29/5-8/6 واعتبرت أول مسرحية عربية تتم اختيارها للمشاركة في هذا المهرجان  من بين 170مسرحية عالمية وهو مهرجان مختص بطرح المواضيع المتعلقة باضطهاد الإنسان ومعاناته في العالم.
•    قدمت أجزاء منها من قبل المخرج نفسه في أماكن أخرى من بينها ولاية مشيغان بأمريكا وكانت من تمثيل كريم جثير وعواطف إبراهيم بعد إضافة نصوص عليها لشعراء عرب حسب مقتضيات ظروف تقديمها.
•    كاتب المسرحية يدين بالفضل للمخرج الفنان كريم جثير على ملاحظاته أثناء كتابة النص والتعديلات التي أجراها أثناء العرض بما يغنيه ويضيف متعة وتأثيرا في الجمهورلذا يهديه إليه ويتوجه بالشكر للفنانين :علي الشيباني وسحر الاصبحي , وسعيد كاكه يي وأمين الفضلي وسهام الخالدي وعواطف إبراهيم ولكل من ساهم في تقديمه على الخشبة من فنيين واداريين .
................................
قالوا في المسرحية :
لقد كان النص صادقا ً ومتكاملا ً في جوانبه الفنية والأدبية  إلى درجة كبيرة ، ولذا لم يكن فيه افتعال أو ضعف ، وكانت مبررة أيضا ً تلك اللغة الحزينة والمبكية لأنها تناسبت والفاجعة التي ضمنها الكاتب مسرحيته وفي الوقت ذاته لم تأت بعيدة عن الواقع الذي نشهده ، فتلك المرأة ليست سوى واحدة من ملايين النساء العراقيات اللاتي فقدن ذويهن وأبناءهن في صراعات ونكبات العراق
                                                                       
د. أمنه النصيري جريدة الوحدة اليمنية 24/4/1996
......................................................
يفاجئنا عبد الرزاق الربيعي باشتغال جميل مازج فيه الأسطوري بالواقعي (  أنليل إله النار ) ننكال المرأة السومرية المطعونة بخراب مدينتها أكد مشعولة حروب هذا الزمن ، المرأة الثكلى بفقدان ولدها ويبوح محلقا ً بنا على بساط الدهر متمتعين بمنهل اللغة التي أطلقت نفسا ً شعريا ً جعلت الجمهور المتابع ينسى المفردات تتهافت على لسانه يكاد يتفوه بها استباقا قبل أن يطلقها الممثل فجعل النص مشحونا ً متماسكا ً ترطب فراغات الانتقال والتمازج مقطوعات من أغان ٍ عراقية شعبية فجرت كوامن الحضور العراقي  و أعادته إلى صبابات الفتوة رحيلا ً إلى محطات الطفولة حيث الذكرى ( أزقة ودروب ) من شواطئ و حارات تقطعها الأقدام الصغيرة حافية تتألف مع حفيف الدشاديش المتربة الرثة على إيقاع الأنفاس المضمخة بالبراءة الطيفية /المائية ...
زيد الشهيد      
.........................................
لقد حبست قاعة العرض أنفاسها بعد أن تصدر أحد الشعراء العرب المعروفين دموع الحاضرين الذين وقفوا طويلا ً يصفقون للشاعر العراقي المبدع عبد الرزاق الربيعي الذي رد على دموع الحاضرين وحزنهم قائلا ً : لقد كانت معاناة ( أهلي ) أشقائكم أكثر قسوة.
جواد الحطاب
............................................
كان وقع النص المسرحي مؤثرا ً للغاية ، فالجميع حبس دموعه أثناء العرض ولكنهم أطلقوها حين كانوا يستمعون إلى آهات الأغاني العراقية الشجية ونواح الأم حين يستشهد ابنها البكر والوحيد ، وأطلقوا العنان لمشاعرهم في التعبير عن طريق ذرف الدموع ، حد الصراخ ولو كان بريشت معنا لبكى أيضا ً
جريدة الوفاق - مارس/ 1996
.....................................................
يحاول المخرج أن يزجك إلى خراب معين قد يكون هو الوطن ، من خلال عاصفة كان قد أعدها كاتب النص الربيعي بشكل مبدع ... آه أيتها العاصفة نص ً حاول من خلاله عبد الرزاق الربيعي أن يداخل العمق الحضاري العراقي مع ما أوصلتنا إليه الدكتاتورية في العراق وقد تلحظ تركيبا ً ثلاثيا ً من دكتاتورية الآلهة ( القديمة ) + دكتاتورية الحاكم + دكتاتورية المخرج ! هذا الثالوث الظالم كان يمارس مسرحية كتبها الربيعي بكل نضج وتفهم لمغزى هذه المزاوجة بين الأمس البعيد جدا و... الآن ...و...الغد ، والذي دفع ثمن هذا الظلم المسرحي والواقعي بنفس الوقت هم أبطال هذا العمل آه أيتها العاصفة
علي حيدر - مجلة كل شيء ـ كندا 26/3/1997
...............................................
فاجأنا الشاعر الربيعي بتلك المسرحية حيث اقتنص في معالجته التأثير على وجدان ومشاعر كل من قرأ النص أو شاهد العرض المسرحي حين تناول الأسطورة وتمازجها بالواقع  وسرح بخيالنا إلى التاريخ القديم وإلى أور و الوركاء والمعابد القديمة ...الخ
فجأة دون أن يشعر المتفرج يجد نفسه أمام مأساة كونية تعانيها الشعوب منذ النشأة وإلى الآن، وتلك الويلات المتتالية وجراح الحروب التي أصبحت لصيقة بآلام بطلة المسرحية . كتب النص بطريقة ذكية جدا ً حيث أمسك المؤلف بذلك الخط الذي يمزج ويتداخل بين الحكايتين (الأسطورة ... الواقع )
محمد هاشم  - جريدة الثورة اليمنية 12/6/1996
..............................................
بنى الربيعي نصه على ثنائيات متضادة مع بعضها على مستوى الشخوص والأحداث على الأساس التالي :
أولا ً : الممثلة التي أتت لتلعب دور ـ ننكال ـ التاريخي تصر على أداء دورها الحقيقي المأساوي في الواقع الغريب  ( ننكال فقدت معبدها وأنا فقدت ولدي )   فلمن يعطى الحق ؟ سؤال أجاب عنه الربيعي عندما وأد ذاكرة التاريخ أو الأسطورة التي استخدمها وقدم ذاكرة أمهات وطن وأدتهن الحرب ولم تؤبد ذاكرتهن مما فقد المخرج سلطته على الممثلة وأصبح خارج النص ( نقصد هنا شخصية المخرج في النص وليس مخرج العمل ) ودخلت الأم كسلطة عليا مهيمنة بمأساتها مما أزاحت أية سلطات أخرى .
ثانيا ً : الحدث التاريخي  أزيح بحدث مأساوي غريب ـ ومن هنا فقدت ذاكرة التاريخ ( ننكال) مكانتها في وعي المتلقي وتقدمت ذاكرة الأم لتحتل مكانها فتماثلت الحالتين معا ً ( ولكن كيف تستطيع الذبيحة أن تدوزن صرختها ؟ )                                  
عبد ربه الهيثمي - الفينيق الأردنية13/7/1996
.................................................
لقد كان عرضا ً متألقا ً إلى حد البكاء فكنا بين حين وآخر نستسلم إلى التصفيق الذي اختلط بنشيج المتفرجين أثناء هذا العرض الرائع حتى أن أحد المتفرجين صرح بعد انتهاء العرض مقترحا ً على إدارة المسرح " لو أعطيتمونا مناديل ورقية بدلاً من ورقة الفولدر"
منعم سعيد
..................................................
 لقد نجح الشاعر " كتابة " والمخرج " فنا ً" في أداء الفكرة  الأساسية للمسرحية وكل التفريعات الثانوية ، دونما مساس بالفكرة الأصل ودون خروج أو قفز على الحدث الجوهري
فؤاد جابر - مجلة النور أيلول 1996
................................................
المسرحية مكتوبة بطريقة القصيدة التي توظف الأسطورة والرمز للخوض في تفاصيل الحدث المعاصر.
كريم شعلان - مجلة المرآة 2/4/1997
.............................................

تعليق عبر الفيس بوك

جميع الحقوق محفوظة لموقع الرؤية © 2024