بكائيات ما قبل الغياب

محمد علي العوض

ما زلت أذكر ملامح ذلك الشيخ المُنشد الذي كان يفد إلى قريتنا قادما كل جمعة من قرية أخرى تبعد عنّا بضعة كيلومترات.. منذ ذلك الحين وأنا أكنّ محبة وتعاطفًا كبيرين مع فئة الأكفاء؛ الذين تبصر قلوبهم ما عمت عنه أعيننا.. وزاد من محبتي لتلك الفئة أنّ أحب الله والدي فابتلاه في حبيبتيه، أي عينيه.. ففي صحيح الإمام البخاري من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه تعالى أنّه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إنّ الله تعالى قال: إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه - يريد عينيه - ثم صبر عوضته منهما الجنة)..

مازلت أذكر المنشد الكفيف والدموع تنهمر تترى من أعين المنصتين والمصلين وهو يترنّم ببكائية علي زين العابدين بن علي رضي الله عنه:

ليس الغريب غريب الشام واليمنِ؛ إنّ الغريب غريب اللحد والكفن..
فلا تنهرن غريبًا حال غربته؛ الدهر ينهره بالذل والحزن
سفري بعيد وزادي لن يبلغني، وقوتى ضعفت والموت يطلبني
دعني أنوح على نفسي وأندبها، وأقطع الدهر بالتذكير والحزن..

وليس ببعيد عن ذاك بكائية مالك بن الريب التميمي التي عدت من جواهر الرثاء ما قبل الموت والتي يقول فيها:

ولما تراءت عند مروٌ منيّتي وحلّ بها جسمي وحانت وفاتيا

أقولُ لأصحابي ارفعوني فإنني يقرُّ بعيني أن سهيل بدا ليا

فيا صاحبي رحلي دنا الموت فانزلا برابية إنّي مقيم لياليا

أقيما عليّ اليوم أو بعض ليلةٍ ولا تعُجلاني قد تبيّن مابيا

وقوما إذا ما استُل روحي فهيّئا لي القبر والأكفان ثم ابكيا ليا

وخطا بأطراف الأسنة مضجعي وردّا على عيني فضل ردائيا

ولا تحسُداني بارك الله فيكُما من الأرض ذات العرض أن توسعا ليا

ويقول في ذات القصيدة:

وأصبح مالي من طريف وتالد لغيري وكان المال بالأمس ماليا..

ويضارع ذلك أحد أبيات بكائية علي زين العابدين الواردة أعلاه حين يقول:

تقاسم الأهل مالي بعدما انصرفوا وصار وزري على ظهري فأثقلني

واستبدلت زوجتي بعلا لها بدلي وحكّمته على الأموال والسكن

وصيرت ولدي عبدا ليخدمها وصار مالي لهم حلا بلا ثمن..

كما يضارع الأخير بيت أمرؤ القيس:

وليس غريبا من تناءت دياره ولكن من وارى الترابُ غريب..

لطالما تساءلت عن سر تلك النفس الوهاجة التي تجود قريحتها شعرًا وهي تجابه الموت ووحشة القبر، فكما تقول صبيحة شبير "إنّ رثاء النفس من أصدق أنواع الرثاء، لأنّه يصدر عن عاطفة كبيرة، صقلها الحزن الشفيف، الذي يعتري المرء حين يشعر أنّه سيفارق الدنيا، وهو لم يعش حياته بالصورة التي يحبها، ويدرك أنّ أحلامه العريضة، في عيشة رغيدة سعيدة قد خابت، وأمله في تحقيق التغيير إلى واقع أجمل تصبو إليه النفس قد فشل"..

لذا لا غلو إن قلنا أنّ رثاء النفس يظل أحد الأغراض الشعرية السامية وأصدق الفنون الشعرية، لصدوره عن نفس حساسة.. فبجانب النماذج التي السالفة ها هو ذا الملك الضليل امرؤ القيس؛ حين علم أنّ أجله قد قاب قوسين أو أدنى بسبب الحُلة المسمومة التي ألبسه إيّاها ملك الروم طفق ينشد بائيته الشهيرة:

 أجارتنا إنّ الخطوب تنوب وإنّى مُقيم ما أقام عسيب

أجارتنا إنّا غريبان ههنا وكل غريب للغريب نسيب

فإن تصلينا فالقرابة بيننا وإن تصرمينا فالغريب غريب

أجارتنا ما فات ليس بؤوب وما هو آت في الزمان قريب

وليس غريبا من تناءت دياره ولكن من وارى الترابُ غريب..

أما أبو فراس الحمداني فيرثي نفسه قائلا:

أبنيتي لا تجزعي كل الأنام إلى ذهاب

نوحي عليّ بحسرة من خلف سترك والحجاب

قولي إذا ناديتني وعييت عن رد الجواب

زين الشباب أبو فراس لم يمتع بالشباب

وعن الرثاء سردًا ربما نقف طويلا عند رائعة الأسباني خوان جويتيسولو "الأربعينية" والذي اتخذ من عادة الأربعين التي تعقب رحيل المتوفي متنا حكائيًا يستنطق به أسرار العالم الآخر وحياة البرزخ في مقاربة سردية ماتعة، ورحلة صوفيّة يرصد من خلالها أسرار عالم ما بعد البعث؛ حيث حفلت الرواية انطلاقا من دلالة العنوان واتكاء على بعض العبارات السردية بعدد من الإشارات المستلهمة من رسالة الغفران للمعري والمراتب السبعة لابن عربي، بجانب جلال الدين الرومي والسهروردي.

وطغت السوريالية على خاتمة الرواية حين أورد البطل/ الراوي أنّه كتب فصول الرواية الأربعين خلال فترة احتضاره القصير، وأنّه حين انتهى من الكتاب نهض من فراشه وارتدى بذلته الوحيدة بعد أن أحكم رباط عنقه، ومن ثمّ استقل الحافلة للذهاب إلى مقر المحكمة، وعند وصوله إليها استعلم حارس الأمن عن المكان، ودلّه الأخير على المصعد الذي حمله إلى الدور السابع، حيث يلتقي جميع المدعوين إلى الأربعينية. كان المكان خاليًا حين وصل، ولكنه اتبع نصيحة الساعي، وطرق الباب الصلب لمكتب التحقيقات الذي علقت عليه لوحة معدنية مذهبة كتب عليها "منكر ونكير".

mohamed102008@windowslive.com