د. عبدالله باحجاج
عندما نتأمل في بوخالد، وهو يحال إلى التقاعد القانوني؛ ابتداء من أول أيام عام 2018 -أي اليوم الإثنين- نشعر بالأسى والتحسر لعدم وجود من يؤمن بقضيته العادلة بامتياز، وبوخالد هنا يجسد الكثير ممن أحيلوا للتقاعد رسميا اليوم، في كل قطاعات الدولة دون استثناء، ووفق قانون التقاعد القديم الذي لا يزال قائما رغم التوجهات السامية لعاهل البلاد -حفظه الله- بتوحيد أنظمة وتشريعات وهياكل صناديق التقاعد في البلاد، لكي تكون في مستوى المواطنة الواحدة أو المتناغمة.
لكن هذا لم يتحقق حتى الآن؛ مما سيعاني معه متقاعدو عام 2018 الأمرين؛ الاول: راتب التقاعد الذي يقلب أوضاع المتقاعدين الاجتماعية رأسا على عقب. والثاني: تقاعدهم دون ترقيات، وهم مستحقوها منذ العام 2010، وجميعهم يمثلون الجيل الذهبي الذي أسهم في القبول العام للتحولات والمتغيرات التي طرأت في بلادنا منذ العام 1970، وكانت لهم بصماتهم الملموسة في التحولات نفسها، وكان ذلك من بين أهم الشروط الموضوعية في سباق كسب الرهان من الانعتاق من مثلث التخلف، إلى بلوغ التقدم والتطور، وسنويًّا يتم إحالة الآلاف من هذا الجيل للتقاعد في ظروف غير مريحة من جهة. وفي مثل حالة بوخالد، نضيف عدم العدالة من جهة ثانية؛ مما سيمثل تقاعدهم في كلتا الحالتين انقلابًا جوهريًّا في مستويات حياتهم الأسرية والمعيشية، وستظهر تداعياتها الآن في ضوء الرسوم والضرائب التي ستمس الحياة الاجتماعية عامة، والمتقاعدين خاصة. إذن، كيف ستصمد رواتب المتقاعدين في عصر الرسوم والضرائب؟ وكيف سيتمكن المتقاعد من تأمين الحد الأدنى للمعيشة لأسرته؟
هذه قضايا تشكل مبعثَ اهتمامنا بقضية المتقاعدين، فهل موازنة عام 2018 ستأخذ بعين الاعتبار تحسين أوضاع الأسر في ظل تلكم التحديات، هذه قضية سنخصِّص لها مقالا مقبلا -إن شاء الله- لأن المسألة التي تشغلنا الآن، قضية بوخالد، ومثله الكثير، قد انتظروا ترقياتهم أكثر من ثماني سنوات، منذ العام 2010، وكم ثماني سنوات في العمر الوظيفي للموظف العمومي، بل وفي حياته الوجودية، حتى ينتظر ترقية واحدة؟ وانتظار الترقيات لبضعة سنوات، هو ظاهرة في بعض الوحدات الحكومية، وقد جاءت الأزمة النفطية عام 2014، لتكرسها وتعمم مساراتها، وبوخالد، نقدمه هنا، كنموذج للموظف المثالي الملتزم في عمله حتى يوم تقاعده، لم يُحبطه فقدانه للعلاوات والمكافآت التشجيعية طوال مسيرته الوظيفية، ولا خلال انتظاره للترقية، ولا حتى فقدانها الآن، لم يتمتع كغيره، بفترة وظيفية ثابتة، وإنما انقلب ليله إلى نهار، ونهاره إلى ليل، في يوم يكون عمله صباحا، واليوم التالي المساء، والآخر ليلا إلى الصباح، تغيرت عليه مع نظرائه في الحقل الإعلامي نواميس الكون، وهذه خصوصية العمل الإعلامي، ويماثله كذلك الكثير من البيئات المشابهة والمشتركة؛ وبالتالي نقدم بوخالد هنا من منظوريْن؛ أحدهما: خاص، يتعلق بحقوق ممن يعمل داخل هذه البيئات التي أصبحت ظاهرة انتشار الامراض مقلقة فيها بسبب اعتيادهم على استخدام التكنولوجيا، وما تسببه إشعاعاتها من أضرار صحية، قد أصبحت معلومة. والآخر: عام، وهو وضع ممن يحال للتقاعد العام 2018، فحرام (حرام حرام) أن يحالوا إلى التقاعد دون الحصول على ترقياتهم المستحقة.
هناك الكثير من المبرِّرات القانونية والموضوعية التي تجعل من الحكومة تعتد بترقياتهم بعد تقاعدهم؛ لعل أبرزها: الظرفية المالية التي كانت تمر بها البلاد، والتي بسببها جُمدت الترقيات، ويتفهَّم كل الموظفين هذا الإجراء، لكن، الآن وبعد أن تحسنت الظرفية المالية، وتسمح بالترقيات، ينبغي أن يحصلوا على حقهم القانوني المؤجل، دون النظر إلى أنهم الآن خارج الوظيفة، لهم الأولوية الأولى في الترقية: قانونيًّا وإنسانيًّا، ولو أردنا أن ننفتح في استجلاء المبررات الضامنة لحقهم، فينبغي الاستشهاد كذلك، باعتداد الدول بما فيها بلادنا بالظروف القهرية التي تغل الأيادي، وتوقف استمرارية المشاريع التنموية.
ففي قطاع الأعمال مثلا، تعوض الحكومة الشركات في حالة الظروف الاستثنائية، كالزالزال -لا قدر الله- والأزمات المالية، كأن تعوضها ماليًّا إذا ما تعذرت الشركات عن تنفيذ مشاريعها بسبب مثل هذه الحالات، كأن لا تتمكن شركة مقاولات مثلا من شراء الأسمنت بنفس السعر المتعاقد عليه قبل الأزمة، فتلجأ الحكومة إلى مساعدتها ماليا، وهذا معمول به عالميا، وفق عدة نظريات؛ مثل: نظرية الظروف الطارئة. وقياسا على ذلك، كيف لا تعتد الحكومة بتحسن الظرفية وانعكاساتها على تحسين معيشة المواطنين؟ وهنا يمكن تكييف قضية المتقاعدين وترقياتهم المستحقة بجوهر وغاية نظرية الظروف القاهرة؛ فقد كان هناك ظرف طاري على مالية الدولة، ترتب عليه وقف الترقيات؛ مما يحتم الآن ترقياتهم بعد زوال السبب الذي أدى لوقف الترقيات.
منطق العدالة والمساواة، يستدعي نفسه بقوة في حالة متقاعدي عام 2018؛ فحالة بوخالد، وهى خاصة الخصوص في ترقيات العام 2017، يخرج الآن من خدمته الطويلة جدًّا، بمجموعة أمراض، وبدون ترقية، وحالته تؤرِّقنا كثيرا، وتدفع بنا لفتح ملف ترقيات المتقاعدين عامة، وعام 2017 خاصة، ومن منظور أبعاد إنسانية خالصة واجتماعية عامة، فقد كان بوخالد صوتا من أصوات إذاعة سلطنة عمان المخضرمة، التي حملت مع جيلها الذهبي رسالة الوطن في التنمية والاستقرار والأمن والأمان؛ إيمانا منها بهذه الرسالة؛ فصوته كان حاملا للنشرات والفترات والعناوين الإخبارية، الصباحية والمسائية والليلية، وتسمعه كذلك في البرامج التنموية والوطنية، وفي كل مناسبتنا الوطنية، إنه صوت من أصوات عمان، يرحل عنا متسائلا: أهكذا تكافئونني يا مسؤولين؟
ولو بحثنا في ملف كل متقاعد من هذا الجيل الذهبي سنجد فيه خلفيات وطنية؛ مثل حمولة بوخالد؛ لذلك من الوفاء لهذا الجيل، ترقية ممن أحيل منهم للتقاعد مع بداية السنة الجديدة؛ فهذا أبسط حقوقهم بكل الاعتبارات سالفة الذكر، وليس منة ولا كرامية، بل إن الإنصاف القول كذلك بأن دراسة إمكانية تحسين أوضاع كل المتقاعدين السابقين، قد أصبحت مسالة حتمية بعد أن ارتفع كل شيء من حولهم، بينما يظل راتب تقاعدهم ثابتا؛ فمن حقهم كذلك التفكير من رفع مستواهم الاقتصادي.
هل سيتم ترقية متقاعدي عام 2018؟ التساؤل نوجِّهه لكل مسؤول له صلة وظيفية أو مؤثر في صناعة قرار الترقيات، وهم كُثر؛ فمن واجبهم الانتصار للحق القانوني لهم في الترقية، ومن صلب واجبهم إعلاء شأن هذه الحمولات الوطنية؛ فهى ضمانة لديمومة البُنى الفوقية لمكوننا الديموغرافي، وتفريغها من محتواها في لحظة الانتقال من دور الدولة الريعي إلى الجبائي، نسهم بذلك في إحكام الخناق على المنظومة السيكولوجية للمكوِّن الديموغرافي، ونرى أنه من أقدس مهام المسؤولية ليس التسيير الإداري للمؤسسة، ولا صناعة النجاح المادي وديمومته في ظل الظرفيات والاستثناءات، وإنما الحفاظ على المنظومة السيكولوجية للديموغرافية العمانية؛ فهى أهم رهاناتنا لمواجهة التحديات بكل أبعادها الداخلية والجيوإستراتيجية؟ فكيف إذا ما صاحبتها حقوق قانونية مستحقة، كحق الترقية؟ فحقهم في الترقية لا ينبغي أن لا يسقط بالتقادم، ولا بإحالتهم للتقاعد القانوني، خاصة إذا كان الطرف المتسبب في التأجيل/التأخير الحكومة، مهما كانت أسبابها، كالأسباب المالية، فبعد تحسنها ينبغي إعطاء الموظفين حقوقهم دون تأخير، وإلا فهذا يعد أكبر انتهاك لحقوق فئة من المواطنين.