أبطال 2017.. مواطنون غير قابلين للكسر

د. سيف المعمري

تحتاج الدول إلى أبطال أكثر من حاجتها إلى آبار؛ وويل للدولة التي يكون بطلها بئر بترول، أو حقل غاز؛ لأن بطولته نسبية قابلة للكسر مرات مرات. وحين تنكسر، يعتقد كثيرون أنها تكسر معها كل شيء، من الخطط الإستراتيجية إلى المشاريع الكبيرة إلى الإرادت إلى القيم الإنسانية، وتنهزم ألسن مؤسسات كثيرة؛ حيث لا تُجيب حين تُسأل عمَّا يجب عليها فعله: نحن في مرحلة أزمة اقتصادية لا توجد لدينا أموال، ولا نستطيع أن نفعل شيئا الآن.

أبطالنا منهزمون الآن حتى يتمكنوا من استعادة عافيتهم، ونسي هؤلاء الأبطالَ الحقيقيين الذين في ظل هذه الظروف وغيرها، الأبطال غير القابلين للكسر من قبل أي شيء، أبطالا يحملون إرادة لا تُضعفها التقلبات الاقتصادية، ولا الإجراءات التقشفية، ولا التحليلات المستقبلية القاتمة، أبطالًا احتفظوا بحبهم الحياة وفرحهم وكفاحهم ونضالهم من أجل أن يكون وطنهم صامدا قويا شامخا، لابد أن نحتفي بالمواطنين غير القابلين للكسر ونحن نودع عاما آخر من الأعوام الصعبة بعد انخفاض أسعار النفط، هذا الاحتفاء له مبرراته، وهذا التتويج بالبطولة له معاييره ومبرراته، وعلينا أن نكون حكاما منصفين، لا نسمح لأحد بأن يتسلل إلى أرضية ملعب هؤلاء الأبطال وهو لم يقم بما قاموا به، وما أكثر المتأهبين للتسلل؛ لأن البعض اعتاد القفز إلى منصات التتويج بدون جدارة واستحقاق.

نعم.. المواطنون هم أبطال عام 2017؛ لأن استمرار الإجراءات الاقتصادية التقشفية لم يكسر إرادتهم، فأولئك الآلاف الذين ينتظرون توفير وظائف لهم منذ عدة سنوات تفهموا موقفَ وأوضاع بلدهم، ولم يضغطوا كثيرا من أجل حث الحكومة على التفكير بشكل مختلف، وتحملوا مع البقية الأعباء الاقتصادية الجديدة ، تحملوا تأخر تحقيق الأحلام التي حلموا بها قبل أن يتخرجوا، أولئك الموظفون الذين ينتظرون ترقيات مستحقة منذ سنوات تحملوا أيضا إجراءات تأخيرها رغم أن تلك الترقيات سيكون لها دور في إعادة تنظيم موازناتهم المالية، وسوف تساعدهم على مواجهة الطوارئ الحياتية، وفي مقدمتها الحاجة للعلاج في الخارج نتيجة الضغط الذي تعانيه المستشفيات المرجعية، لم يصروا على هذا الحق في وقت أصرت مؤسساتهم على محاسبتهم على التأخر نصف ساعة عن بصمة الدوام، أصروا على أن يكونوا أكثر تعقلا ومرونة من المؤسسات التي ينتمون إليها، لم يكسر هؤلاء المواطنين ازدياد الضرائب على كل الخدمات التي تقدم لهم، بل إن بعض المؤسسات عملت في هذه الفترة على تغيير أنظمتها وبرامجها ووثائقها، وحمَّلت المواطنين كلفة ذلك التغيير دون مراعاة للظروف الاقتصادية، لكن المواطنين لم ينكسروا، ودفعوا ما طلب منهم إيمانا منهم بأن وطنهم لن يقوى إلا بهم وبتعاونهم، حتى مع ما يجدونه يدخل في دائرة اللامعقول، ولكن المواطن المخلص لوطنه يحول اللامعقول إلى معقول، وهذه هي السمة التي تجعل من هؤلاء المواطنين أبطالا، أنهم يضغطون على أنفسهم حتى لا يضغط على وطنهم، يعطون من أثمن ما يملكون وهي دخولهم، هؤلاء المواطنون الذين لا يذكرهم أحد أثبتوا أنهم صمام الأمان الأهم للبلد، والحاجز الأمين الذي لا يمكن أن يُكسر، ما أسعد الوطن الذي يملك هؤلاء المواطنين الذين لا يكسرهم أي شيء.

إننا لو قارنا ما قام به هؤلاء المواطنون من جهد لتعزيز ثبات وطنهم الاقتصادي بما قامت به القطاعات الأخرى، سوف ندرك: لماذا يستحق هؤلاء هذا التتويج بلقب البطولة؟ لماذا لم ينكسروا في وقت لا تزال هذه القطاعات منكسرة فيه لم تقم بأي إجراءات ابتكارية للخروج من سيطرة الأبطال النسبيين من حقول النفط والغاز؟ هذا سؤال يوجه إلى هذه القطاعات علَّها تتمكَّن من التبرير لما تقوم به من دور يتناسب مع الدور الذي قام به المواطنون؟ ماذا تنتظر والسماء لم تعد تمطر معجزات؟ عامان مضيا وملفات ربما بسيطة مثل التوظيف والترقيات وإصلاح قطاع التعليم وهيكلة القطاع الإداري لم يُحرز فيها أي تقدم، ما الذي ينتظره القائمون على القطاع الخاص والاستثمار لمشاركة الحكومة معالجة هذه الإشكالية؟! لم يُطالب أحد هؤلاء بأن يكونوا مثل: أبوبكر الصديق وعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان -رضي الله عنهم- حين وضعوا أموالهم لدعم الدولة، إنما كان يُتوقع منهم تعبير صادق كالذي عبَّر به المواطنون، في النهاية لا يريد المواطنون أن يسمعوا من هؤلاء الشكوى في المنتديات والمؤتمرات الاقتصادية التي عُقدت طوال العام، يريدون من هؤلاء قيادة مبادرات لإنعاش فرص المواطنين في الاستفادة من فرص الاستثمار؛ من أجل الحفاظ على إرادة عدم الكسر التي حافظ عليها هؤلاء المواطنون حتى الآن؛ لأن هذه الإرادة هي اليوم منبع الأمان الوطني، والأمر ينطبق على قطاع المجتمع المدني، وإن كان صغيرا، فلابد أن يقوم بدور منهجي في تعزيز قدرة البلد الاقتصادية، لا يُعقل أن يكون بما يتوافر له من جمعيات في عالم آخر غير العالم الذي يعيشه هؤلاء المواطنون. على الأقل أن يتيح فرصا للاحتفاء بقصص نجاح هؤلاء المواطنين في ظل هذه الظروف بيومياتهم وتفاصيل حياتهم وبدراسة تحولات أنماط حياتهم وقيمهم، أن يبحث في الفوارق التي يمكن أن تنتجها هذه الظروف، وكيف ستعمل هذه الجمعيات على المساعدة في التقليل منها.

... إن مقاومة الكسر لا يجب أن تكون هدفا فرديا للمواطنين، إنما يجب أن تكون مشروعا وطنيا يتطلب مراجعة في الآليات التي اتخذت لمواجهة هذه الأزمة، والتي محورها هي توفير المال بأي شكل كان؛ لأن هذه الآليات على المدى الطويل قد تؤثر في قابلية عدم الكسر التي يتسلح بها المواطنون، ومهمة كل الخطط أن تتخذ الإجراءات والقرارات التي تعزز من قابلية عدم الكسر، بدلا من إضعاف هذه القابلية؛ لأنه إذا انكسرت أسعار النفط يمكن تعويضها، لكن إذا انكسر المواطن سوف ينكسر معه كل شيء، لذا لابد أن يكون هدف عام 2018 هو تعزيز مناعة المواطنين للإجراءات التي تتخذ تباعا لإنعاش الاقتصاد؛ لأن إنعاش الاقتصاد لا يعني بالضرورة إنعاش حياة المواطنين.. علينا أن ننظر بشكل أكثر عمقا لما يجري.