جمال الكندي
الظاهرة الداعشية -إن صح التعبير- قاربتْ على الانتهاء في العراق وسوريا، هذه الظاهرة التي شغلت العالم، وأقيمت من أجلها التحالفات الأمنية والعسكرية، شارفت على الأفول في هذين البلدين.
"داعش" يتبخر في بلاد الرافدين وفي سوريا، ويلفظ أنفاسه الأخيرة فيهما، بعد أن سفك الدماء البريئة، فقتل، وسبى، وأسر، ودمر، وفجر باسم الإسلام، ولكن هذا الإسلام ليس إسلام محمد رسول الإنسانية، بل هو إنتاج داعشي، ومرجعه تاريخ الخوارج، والإسلام الذي نزل على سيدنا محمد -عليه أفضل الصلاة والسلام- براء منه براءة الذئب من دم ابن يعقوب.
إنَّ سقوط "داعش" في المنطقة، وبهذه السرعة، أربك من أسهم في إيجاده من أجل الاستثمار، وإدارة المعركة حسب أجندته، وما ظهور "داعش" بهذه القوة في الساحة العراقية والسورية، إلا من أجل التدخل في البلدين واستنزافهم وجيرانهم باسم محاربة الإرهاب، وكلام الرئيس الأمريكي السابق أوباما بأن القضاء على "داعش" يتطلب عشرات السنين ما هو إلا دليل على الرغبة الأمريكية ببقاء "داعش" في المنطقة أكبر فترة ممكنة؛ وذلك لإدارة الصراع معها حسب الرؤية الأمريكية التي عنوانها دحرجة "داعش" في المنطقة.
هذا كان واضحاً طوال فترة الصراع مع "داعش" من قبل التحالف الأمريكي، الذي يزعم أنه يحارب "داعش"، خاصةً في سوريا، في حين أنه لا يتعاون مع الجيش العربي السوري وحلفائه، وطبعا كانت هذه من أكبر مشاكل الحلف الأمريكي في سوريا مقارنةً بالعراق، والأكثر من ذلك كان يساعد "داعش" في التمدد في بعض المناطق السورية، وحادثة قصف جبل الثردة في دير الزور ومطار الشعيرات دليل على ذلك.
لقد فشلت الأجندة الأمريكية في العراق وسوريا، والتي كان عنوانها نقل "داعش" من مكان إلى آخر، وعدم الخوض معها في معارك كسر العظم.
هنا.. يأتي السؤال المهم والجوهري: ماذا بعد "داعش" في العراق وسوريا؟ ففي العراق أفشل الجيش العراقي والقوى الوطنية التي تقاتل معه الخطط الأمريكية لبقاء "داعش" عشرات السنين، وإيجاد المبرر لبقاء القوات الأمريكية وغيرها في العراق أطول فترة ممكنة، فجاء انتصار الجيش العراقي ليقلب الطاولة على الأمريكي، ويخلط الأوراق الغربية بأوراق وطنية عنوانها وحدة العراق هي الأساس.
دحر "داعش" في العراق يعني ترتيب أوراق العراقيين تحت راية كل مكوناته التي حاربت "داعش"، وإيجاد حكومة وطنية منتخبة ومقبولة من كل الأطياف العراقية عنوانها بناء عراق جديد يضم كل العراقيين، تحت شعار العراق أولاً وثانياً وأخيراً.
لذلك؛ رأينا قضية استقلال كردستان العراق تظهر على السطح من جديد، بمباركة صهيونية وتأييد أمريكي من تحت الطاولة مع بعض العرب الذين يريدون إيجاد كيان في العراق يقارع الوجود الإيراني في المنطقة، وهي مسالة تصفية حسابات على حساب وحدة العراق، وتم إجهاض هذا المشروع بفضل وحدة القرار السياسي العراقي تحت عنوان لا لتقسيم العراق تحت أي مبرر. وفي سوريا الأمر مماثل، وإن كان الوضع السوري أكثر تعقيدا.
استثمار وجود "داعش" كان واضحاً من قبل التحالف الأمريكي؛ فالمطلوب في سوريا كان دفع "داعش" من الرقة إلى دير الزور، وتقويتها في البادية السورية لإدارة الصراع معها حسب الرؤية الأمريكية. فشل هذا المشروع بتحرير الشرق السوري.
سقوط "داعش" بات أمراً واقعيًّا، وهذا طبعاً بفضل القوى الوطنية الحقيقية التي تقاتله، ولكن هل سيتم إنتاج عدو جديد يتم من خلاله إدارة الصراع في منطقة الشرق الأوسط واستنزاف ثرواته الطبيعية؟ جواب ذلك كان من خلال القمم الثلاثة التي شارك فيها الرئيس الأمريكي ترامب قادة العرب والمسلمين في الرياض، وتم إخراج سيناريو جديد للمنطقة عنوانه الخطر الإيراني وحلفاؤه، وطرق مجابهة هذا الخطر عسكريا وسياسيا واقتصاديا.
هذا السيناريو نرى له متحمِّسين من الجانب الغربي، ومن بعض إخوتنا العرب، وتتلاقى معهم المصالح الصهيونية في كسر المحور الإيراني في المنطقة، وكلٌّ يعمل حسب رؤيته للخطر الإيراني حسب تعبيرهم.
"داعش" انتهى، ولكن المحاولات لخلق عدو جديد يحل محله لم ينتهِ بعد وهاجس ما بعد "داعش" ما زال مطروحاً، ليتم من خلاله استنزاف مواردنا البشرية والمالية، فهل سيتحقق ذلك، ويستبدل "داعش" بعدوى جديد؟ هي الأيام وحدها من ستبيِّن ذلك.