محو الأمية الرقمية

 

حميد السعيدي

يعد وصف العالم بأنّه قرية صغيرة هو أقرب للواقع الذي نعيشه اليوم، حيث أسهم الانفجار المعرفي والذي رافقه التطور في التكنولوجيا، وخاصة ظهور الأجهزة الذكية، وشبكات الانترنت العالمية، والتي أصبحت بيد كل واحد على سطح المعمورة، كلها عوامل أسهمت في تحوّل هذا العالم الكبير إلى قرية صغيرة نعيشها في أجهزتنا الصغيرة، حيث كسرت كل الحواجز ولم يصبح للحدود السياسية والمسافات الجغرافية تأثير في عملية التواصل والاتصال بين شعوب العالم المختلفة حسب أطيافها وأجناسها ولغاتها، وكأننا نتعايش بجوار بعضنا البعض، كل ما نحتاجه بالعالم الواقعي نحصل عليه في العالم الافتراضي.

الأمر الذي أصبحنا فيه بحاجة إلى معرفة كل التفاصيل المتعلقة بالتعامل مع هذا العالم، بحيث إننا نتمكّن من الاستفادة من المعارف والمعلومات، وأيضًا كل من يمكن أن يمنحنا فرصة للحصول على احتياجاتنا المختلفة، ولكن تحقيق هذه الغاية ليس بتلك السهولة، فهذا العالم بالرغم من بسطته وسهوله الوصول إليه والتعمق بين صفحاته ومواقعه، إلا أن الفرد الذي يجب أن يكون جزءا منه على أن يكون على مستوى عالٍ مما يمكن تسميته بالثقافة التقنية.

وعدم امتلاك الفرد لهذه الثقافة يصبح جزءا من الأميّة الرقمية، حيث يُعد هذا المفهوم من المصطلحات الحديثة التي برزت بقوة في الفترة الحالية، نتيجة للانتشار الكبير للقضايا المتعلقة بالابتزاز الإلكتروني والنصب والاحتيال المالي عبر المواقع الإلكترونية وشبكات التواصل الاجتماعي، ووقوع الفرد ضحيّة لذلك هو نتيجة للأميّة الرقميّة.

ولو رجعنا إلى مفهوم الأمية فقد كان قديمًا يطلق على من لا يمتلك مهارة القراءة والكتابة، أمّا اليوم فقد تطور هذا المفهوم ليضم عدم المعرفة بمهارات التعامل مع المعرفة الرقمية، والتي تحتاج إلى مهارات تتعلق بكيفية التعامل معها من خلال استقبالها وإعادة إرسالها، وتحلليها وتفسيرها بما يساعد على تحقيق الفهم الواقعي لهذه المعرفة، ولا تقاس هذه الأمية من خلال المقدرة على التعامل مع الأجهزة الذكية وأجهزة الحاسوب، فالمستخدم قد يكون على مهارة تامة في التعامل مع هذه الأجهزة، ولكنّه غير قادر على التعامل مع المعرفة التقنية.

أذن فالفرد بحاجة إلى امتلاك ما يمكن تسميته الثقافة الرقمية التي تساعده على التفاعل الإيجابي مع التقانة الحديثة، بحيث يستطيع أن يستفيد من هذا العالم التقني، دون أن نحرم أنفسنا أو الآخرين من العيش ضمن هذا العالم بحجة أنّه عالم سيء بلا قانون أو أنظمة تتحكم فيه، أو تسوده الفوضى ولا يمكن التعامل معه، بالرغم من تواجد كل هذه الجوانب السلبية إلا أنّه هناك الكثير من الجوانب الإيجابية التي نحن بحاجة إلى الاستفادة منها.

وحتى نحقق هذه الاستفادة دون أن يحدث ذلك الضرر لدينا فإننا بحاجة إلى تهيئة أنفسنا وتقويتها بالمعارف والمعلومات والمهارات التي تساعد على التعامل الإيجابي مع التقانة الحديثة، مما يسهم في تحقق الفائدة التي تعود بالنفع على الفرد والمجتمع، فلا يمكن أن نحرم أنفسنا أو أبناءنا من التفاعل الإلكتروني، والانفتاح على هذا العالم، والتعرّف على الثقافات المتعددة، واكتساب المعرفة من مصادرها المتنوعة، وبناء علاقات وحوار بين الشعوب والأمم، في ضوء مجموعة من الأطر التي يجب أن يتحلى بها المواطن الرقمي، ومنها ما يرتبط بقواعد السلوك الرقمي.

وما يحدث اليوم من ارتفاع في القضايا المتعلقة بالابتزاز الإلكتروني والنصب والاحتيال الذي يتم عبر المواقع الإلكترونية عبر شبكة الانترنت هو نتاج للأميّة الرقمية وعدم امتلاك الفرد للمعرفة التي تمكنه من أولاً من حماية نفسه من التعرض لمثل هذه المواقف، وثانيا ما يمكنه من الاستفادة من الإمكانيات التقنية المتاحة في هذا العالم الافتراضي، فنحن بحاجة للتعلم عبر الانترنت، وإنجاز الكثير من المعاملات اليومية، بل وتخليص الكثير من الأنشطة التي يحتاج الفرد بصورة شبه يومية عبر التقنية الحديثة، إلى جانب دخول البعض في التجارة الإلكترونية متجاوز الحدود السياسية والمسافات البعيدة، من خلال جهازه الصغير، هذا الأمر بحاجة إلى وجود ثلاثة عناصر أساسية وهي المعرفة والمهارة والقيم والاتجاهات، والتي تمكن الفرد من الدخول في هذا العالم والاستفادة من الإمكانيات المتاحة له.

والمجتمع الذي ينتظر أن تظهر الكثير من المشكلات نتيجة لاستخدام هذه التقنية هو مجتمع لا يمتلك الرؤية المستقبلية، القادرة على التكيف مع تغيرات العالم ومستجداته، لذا فإن الأمر بحاجة إلى جهود تبذلها المؤسسات التربوية والاجتماعية والإعلامية في العمل على محو الأمية الرقمية، وتعليم الجميع دون استثناء على ما يجب القيام به بالصورة المناسبة البعيدة عن الأخطاء، فلا يمكن أن نمنع أو نؤثر سلبا على استخدام التقانة الحديثة، ولكن يمكننا أن نعلم وندرب الجميع على كيفية التعامل معها بصورة إيجابية.

ومن الغريب فعلاً أن تمنع المؤسسة التربوية استخدام التقانة الحديثة في المدرسة، خاصة الأجهزة الذكية، بل وصل الحال إلى أنّ الانترنت أصبح حكراً على الاستخدام الإداري، ولم يُعد للتعليم مجال إلا القليل، وهذا أحد الجوانب السلبيّة، فالقوانين التي تمنع ما هو متاح هي بالواقع توجه الفرد بطريقة غير مباشرة للبحث للإجابة عن سؤال لماذا هو ممنوع؟

لذا أصبح من الضروريات تغير تلك النظرة والعمل على تفعيل التقانة بالمدرسة بصورة أفضل من الماضي، وإيجاد محتوى معرفي ضمن المناهج يتضمن الثقافة التقنية التي تكسب المتعلم القدرة على التعامل مع مختلف الأجهزة والمواقع الإلكتروني وشبكات التواصل الاجتماعي، بما يمكنه من حماية نفسه من التعرض للاحتيال أو الابتزاز الإلكتروني، وفي ذات الوقت تساعده على أن يكون جزءا مؤثرًا في هذا العالم بحيث يستطيع الاستفادة من كل الإمكانيات المُتاحة في كافة المجالات.

Hm.alsaidi2@gmail.com