استشراف المستقبل

 

حميد السعيدي

نقلب دفاتر الماضي ونقرأ في كتب التاريخ، ثم نفتح صفحات السجلات وننظر للأرقام، نريد أن نبحث عن المستقبل بين بوابات الزمن، ولكننا لا نمتلك ذلك المفتاح الذي يفتح لنا تلك الأبواب، فنطرق أبواب الآخرين لعلهم يفتحون لنا نافذة عبر جدرانهم تسمح لنا بالإطلالة القصيرة من تلك النافذة الضيقة.

نبحث بين كل البوابات عن شيء يكون مختلفاً وباهراً يحقق لنا جزءا من أحلامنا، التي نتمناها أو نرجوها، أو نحلم بها، أو نريدها، أو نحلم أن تكون بوابة مختلفة تفتح لنا آفاقا جديدة، أو قد تكون بوابة مثل سابقاتها والتاريخ يكرر ذاته، ما بين هذه وهذا يأتي العمل وعقد الندوات والمؤتمرات والملتقيات، نعقد على هامشها الجلسات والحوارات ونناقش المجتمع، ونفتح له مجالاً للحضور من أجل تسجيل القناعات لدى الجميع.

في ظل كل هذه الغيبيات تأتي ندوة استشراف المستقبل منطلقا نحو عُمان 2040 بحيث نتمكن من تقديم رؤية جديدة بأفكار رائدة تتحول من التنظير إلى الواقع، من أجل أن تصنع مستقبلا لعُمان ينطلق من مرتكزات القوى البشرية والموارد الطبيعية وتكنولوجيا الحداثة، حيث الطموح كبير مما يخلق جوا من التفاؤل، بحيث نحقق الريادة في كافة المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتعليمية والعلمية.

وعقد مثل هذه اللقاءات من أجل فتح مجال للحوار المجتمعي، والاطلاع على نتائج الدراسات الأبحاث، وتجارب الدول والمؤسسات يعطينا رؤية حول واقع المستقبل، وما قد يحدث خلاله من تغيرات ومستجدات تختلف عن واقع اليوم، الأمر الذي يمكننا من صياغة رؤية جديدة لعمان تحقق الأهداف والغايات الوطنية، وتقودنا نحو تحقيق التنافسية الاقتصادية والتقدم في كافة المجلات بما يحقق لنا الريادة في صناعة دولة متقدمة؛ ولكن قبل التطرق إلى هذا الحلم علينا أن ننظر إلى الواقع الحالي، ونقرأ الفترة الماضية وما حققنا من إنجازات، وماهي التحديات أو المشكلات التي تمثل هاجسًا وطنيا لكل مواطن حتى نتمكن من العبور نحو المستقبل، لذا فإنّ أهم المرتكزات التي يجب أن تكون حاضرة عن مخطط هذه الرؤية وجود خمسة عناصر أساسية مهمة جداً كانت سببا بالماضي في عدم تحقيق رؤية 2020، وهي التعليم، والبحث العلمي، القيادات المسؤولة في المؤسسات الحكومية، والمعيارية.

فالتعليم هو الطريق الذي من خلاله نتجه نحو صناعة التقدم، فوجود مخرجات قادرة على الابتكار والإبداع تستطيع أن تحدث التغيير والتطوير في مختلف المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والعلمية، وبدونها لا يمكن أن نحقق رؤية جديدة لعُمان، فبناء أجيال تمتلك الفكر والكفاءة القادرة على أن تقوم بأدوارهم وواجباتها مما يمكنها من إيجاد وبلورة الحداثة والتقدم، ولكن عدم وجود هذه المخرجات يجعلنا نجزم أن التعليم لم يحقق لنا المخرجات وفقا للمقاييس والمواصفات التي يجب أن تتميز بها، وطالما نحن لا نمتلك تلك المخرجات، فنحن أيضًا يمكن القيام باستيرادها مثل ما نستورد المواد المختلفة، وهنا تمكن أهميّة العودة إلى تقييم واقع المنظومة التعليمية والعمل على إعادة رسم سياستها بحيث تحقق الرؤية التي يبتغيها هذا الوطن.

ويأتي البحث العلمي كأحد أسباب صناعة التقدم، ونحن بحاجة إلى وجود قاعدة أساسيّة تقوم على توجيه البحث العلمي نحو الجوانب المتعلقة بصناعة المعرفة والابتكار والتكنولوجيا، وهي المرتكزات التي يقوم عليها اقتصاد اليوم، وتحقيق ذلك يجب أن يتم عبر الكوادر العُمانية التي تمتلك الكفاءة والقدرة على البحث العملي، وإلى موارد مالية قادرة على توفير كل الاحتياجات والإمكانيات التي يحتاجها البحث العلمي حتى لو كان ذلك على حساب العديد من المشاريع الأخرى.

فالبحث العملي يقوم على ثلاثة عناصر أساسية هي المال، والكادر البشري، والزمن، فالإنجازات العلمية تحتاج إلى فترة زمنية طويلة إلى إنفاق مالي ضخم يتجاوز الحدود الحالية، فما وصل إليه العالم اليوم من ابتكارات واختراعات في مختلف المجالات لم تأت على سبيل الصدفة أو الأحلام، وإنما نتجت من خلال العمل والجهد الذي بذل من أجل إيجاد ما هو جديد في عالم اليوم.

وتعد القيادات المسؤولة في المؤسسات الحكومية من أساسيات نجاح رؤية المستقبل، خاصة ما تتميز به من مقدرة على الفاعلية والابتكار، والإبداع، والتجديد، ومعالجة التحديات والبحث عن الحداثة، وتمتلك روح المواطنة، وصناعة الجودة، ويسخر الكفاءات الوطنية في خدمة الوطن، كلها عناصر يجب تواجدها في هذه القيادات حتى نستطيع أن نوجد مؤسسات حكومية قادرة على تقديم خدمات أو صناعة منتجات عالية الجودة، والوصول إلى هذه الغاية إلى تحتاج إلى أموال أو إلى خبراء من الخارج، وإنما تحتاج إلى تلك الشخصيات القادرة على الاستفادة من القوى البشرية العمانية والكفاءات المخلصة بما يمكنها من توظيفها من أجل مصلحة الوطن، ولكن إذا كانت هذه القيادات غير قادرة على ذلك فإنّ عملية التجديد والتطوير فيها عامل مهم، فلا يمكن التمسك بمسؤول في مؤسسات أصبحت عبءا على صناعة التطور في البلد لفترة طويلة في ظل وجود منتج ضعيف وتذمر من المواطنين من سوء خدماتها فهؤلاء يشكلون عائق أمام التطوير والتحديث.

وتأتي المعيارية كأحد المكونات التي لا يمكن استبعادها في عالم يتسابق نحو التنافسية الاقتصادية من خلال التحكم في السوق العالمية بفرض صناعته ومنتجاته ذات الجودة العالية، فلابد من صياغة مجموعة من المقاييس والمواصفات لجميع منتجات ومخرجات المؤسسات الحكومية، وفي ضوئها يتم تقييم عمل هذه المؤسسة من خلال وجود مؤسسة مستقلة قادرة على إصدار قرارات ذات استقلالية تامة من خلال أدوات تقييم تعتمد هذه المقاييس، وعليها يتم الحكم على مدى فاعلية هذه المؤسسة أو فشلها، فالأموال التي تنفق سنويا لهذه المؤسسات يجب أن تسترجع على شكل منتجات ترضي المواطن أولاً وتحقق طموحة، أمّا أن نعيش على هامش الفوضى ونترك هذه المؤسسات على علاتها دون تغيير فنحن لا نتجه نحو المستقبل وإنّما نحو العبور على جسور متكسرة وقابلة للسقوط والبقاء في المقاعد المتأخرة نلملم ونلتقط إنجازات الآخرين.

Hm.alsaidi2@gmail.com