100 عام على وعد بلفور

جمال الكندي

مر على وعد بلفور المشؤوم مائة عام، هذا الوعد أعطى من لا يملك أرضاً لمن لا يستحق، والمقصد هنا الوعد الذي أعطته بريطانيا للكيان الصهيوني بإقامة وطن قومي لليهود على تراب فلسطين. هذا الوعد الذي كان بتاريخ 1917، وفي نصِّه يذكر أرثر بلفور وزير خارجية بريطانيا، في ذلك الوقت: "أن حكومة صاحب الجلالة تنظر بعين العطف إلى إقامة وطن قومي في فلسطين للشعب اليهودي، وستبذل غاية جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية".

من هذه الكلمات تأسست بداية جديدة في التاريخ العربي المعاصر، كانت تحت عنوان الصراع العربي الصهيوني، فبعد التحرر العربي من الهيمنة العثمانية على معظم الدول العربية بمساعدة من زرع هذا الكيان الغاصب في فلسطين وتسبب في توسعه ورعايته، جاءت مرحلة ثانية اسمها النضال العربي لمحاربة الاستعمار الغربي، بعد أن تم تقسيم الجغرافية العربية بين البريطانيين والفرنسيين حسب اتفاقية سايس بيكو، والذي يعرف دوليًّا بانتداب الغربي للدول العربية التي خرجت من العباءة العثمانية.

تحررت هذه الدول، وبقيت فلسطين تعاني من هذا الوعد الذي زرع على أرضها منذ 100 عام العصابات الصهيونية، هذه العصابات التي تم تجميعها من شتى بقاع الأرض ليحتلوا أرضاً ليست لهم، بوعد من دولة استعمارية لا تملك الأرض فكيف تعطي الوعد!

زرع هذا الكيان الصهيوني في فلسطين، والبلد تحت الاحتلال البريطاني، ولكن هذا لم يمنع أن تتوحد الكلمة والهدف تحت راية تحرير القدس في ذلك الوقت؛ فهبت الأمة العربية لنجدة فلسطين فكانت حرب 1948، ومهما كانت أسباب هذه الحرب ونتائجها وهي معروفة، المهم المضمون؛ فهذه الحرب وحدت العرب والمسلمين تحت شعار واحد هو تحرير الأرض.

هذا الشعار يكاد يزول من واقع المسلمين اليوم، ومن يردد هذا الشعار يعتبرونه يغرد خارج منظومة السلام العالمية، ومن يسعى كذلك إلى تقوية من يدافع عن الأرض في فلسطين المحتلة، ويدعم قوى المقاومة فيها هو إرهابي لا بد من محاسبته ومحاصرته وتصفيته، وهذا ما تسعى إليه إسرائيل مع حلفائها في المنطقة.

زرع هذا الكيان في قلب الأمة العربية، ونحن هذه الأيام نتذكر وعد بلفور الذي أعطى للصهاينة قطعة من فلسطين، وشرعنا بداية توسع هذا الكيان في فلسطين ومصر وسوريا، فكان هذا الوعد العلامة الفارقة للوجود الصهيوني في الجغرافية العربية، وبداية تأسيس الصراع العربي-الإسرائيلي على مدار قرن من الزمان، تباينت فيه الرؤى العربية بين مقاوم ومناضل ضد هذا الوجود وبين مهادن ولو على حساب الأرض والرضا بالواقع من أجل عدم إغضاب القوى العظمى في المنطقة، والأدهى من ذلك مسألة التطبيع مع هذا الكيان من قبل بعض الدول والكيانات العربية بعد اتفاقية كامب ديفيد.

وعد بلفور كان هو المنطلق لتأسيس دولة إسرائيل، والتي تمددت بفعل تبعات هذا الوعد، فهي قوت الذراع العسكرية لليهود فحصلوا على الدعم العسكري بعد أن تم قبول وجودهم سياسيًّا، ومنذ ذلك التاريخ بدأ الدعم غير المحدود من القوى الغربية، التي تمثلت في السابق ببريطانيا العظمى، واليوم بالولايات الأمريكية المتحدة وحلفائها، فبدأ معها ما يعرف بالحرب ضد العرب المناهضين للوجود الصهيوني، فكانت حرب 1967 ونتائجها الكارثية باحتلال أراضٍ في مصر وسوريا وفلسطين. هذا الواقع المؤلم زاد من وحدة المصير والهدف عند العرب والمسلمين في محاربة إسرائيل، وهذا طبعاً كان يقلق الداعم الأول للعدو الصهيوني ويحاول بشتى الطرق السياسية والعسكرية إضعاف الدول التي تسعى لاسترداد ما سلبته الأيادي الصهيونية من أراضينا العربية، فكانت حرب 1973 والتي أرجعت بعض الكرامة العربية التي سببها وعد بلفور؛ فكان النصر في مصر وسوريا ترجمة لهذه الوحدة والعداء للكيان الصهيوني.

هذه الحقبة كانت تحت قيادة زعيم العرب جمال عبد الناصر، وتوجت بالنصر المبين في عهد الرئيس المصري الأسبق أنور السادات والرئيس السوري حافظ الأسد. ذلك الزمن كان زمن نهضة الجيوش العربية ووحدة مصيرها وبوصلتها تجاه العدو الصهيوني والذي تسبب في إلحاق هزيمة كبرى لإسرائيل.

واقع العرب والمسلمين قبل اتفاقية كامب ديفيد واليوم يختلف اختلافاً كبيراً؛ فلقد استطاع هذا الاتفاق أن يجعل وجود هذا الكيان فينا أمراً واقعياً، وكان المدخل لكي يتم التطبيع معه سياسياً واقتصاديا، ولكن لم ينجح إلى حد كبير في أن يطبع ذلك اجتماعياً، فكان الرفض لوجوده شعبياً، وصورة ما جرى من قبل رئيس البرلمان الكويتي مرزوق الغانم، ورفضه جلوس برلماني إسرائيلي في نفس القاعة التي يتواجد بها البرلمانيون العرب وإصراره على طرد هذا الإسرائيلي، يبين لنا أن مسألة قبول إسرائيل شعبياً هو مرفوض، وهذا بدوره يزرع فينا الأمل بأن العداء لهذا الكيان ما زال قويًّا في الشارع العربي، وهذا ينعكس إيجاباً في قضية تحرير فلسطين والجولان ومزارع شبعة اللبنانية.

هذا الواقع الشعبوي المعادي لإسرائيل يخيف الكيان الصهيوني ومن يدعمه؛ لذلك كان لا بد من خلق فوضى تُلهي الشارع العربي عن قضيته الأساسية وهي استرداد ما سلبته إسرائيل. من هنا بدأت خيوط المؤامرة فكانت مسرحية الربيع العربي للنيل من الدول التي تعادي إسرائيل، ومحاولة تغييرها من الداخل، والفوضى والدمار في سوريا وهي من الدول الأساسية بعد كامب ديفيد في محاربة إسرائيل عن طريق دعم قوى المقاومة في فلسطين ولبنان دليل ذلك.

وعد بلفور هو تذكير للأمة العربية والإسلامية بدور القوى الاستعمارية في زرع نبتة إسرائيل في أرض أولى القبلتين وثالث الحرمين، وهي مناسبة ليعلم الجيل الجديد بأن فلسطين والقدس هي القضية المحورية الأساسية في الماضي والحاضر والمستقبل، إلى أن يتم تحريرها بإذن الله تعالى.