سياسة الأسد العماني الشجاع

مسعود الحمداني

الأسد سيّد الغابة، ونحن العمانيون أسود السياسة العربية وساداتها، لا أقول هذا الكلام جزافا، ولا نكاية بأحد، ولكنّه رد على أولئك المتنطعين الذين يعتقدون أن مبدأ الحياد هو سياسة الضعفاء، وأنّ الاستقلالية بالرأي في الأمور العضال هو مبدأ الجبناء.

لكل هؤلاء أقول: إنّ الجبن والضعف يعني الاستسلام لإرادة الآخرين، والانضواء تحت عباءاتهم، وأنّ الضعف والجبن هو الصمت عن الحق، والرضوخ للظلم، والإذعان لكل الإملاءات التي تريدها الدول الكبيرة في المساحة، الضيقة في الرؤية، دون نظر لمصلحة البلاد، ولا العباد، ودون اعتبار لدين، أو جوار، أو مصالح مشتركة، بل يكون الرأي تابعا ونابعا عن خوف من غضب الأطراف الكبيرة، وخشيةً من بطشها، وردة فعلها.

حين وصل حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم - حفظه الله ورعاه- إلى سدّة الحكم في العام 1970، أرسى قواعد ومبادئ السياسة العمانية الواضحة والصريحة، والتي لا تزايد على الشعارات الرنانة، ولا العبارات البراقة، والتي تنظر إلى العالم بشكل شمولي، وليس كقطع متناثرة من الدول. لقد أعلنها جلالته منذ سبعة وأربعين عاما: "أنّ السياسة الخارجية العمانية تقوم على حسن الجوار، والاحترام المتبادل، وعدم التدخل في شؤون الدول الأخرى"، وظلت عمان منذ ذلك الحين وفيّة لهذا المبدأ، وثابتة عليه، لا تزعزها ريح، ولا تهزها عاصفة.

حين منحت السلطنة بريطانيا بعض التسهيلات العسكرية في بداية السبعينات لظروف وطنية استثنائية، ثارت بعض الدول الخليجية، واتهمتها بأنّها باعت أراضيها للأجانب، وهاجمتها إعلاميا بشراسة، ثم ما لبثت أن أصبحت تلك الدول بعد حين مرتعا لكل جيوش الأرض، وبقيت عُمان على ثباتها، وصلابتها.

وحين قاطعت معظم الدول العربية مصر إثر زيارة الرئيس الراحل أنور السادات إلى إسرائيل، وقفت عمان كالجبل الذي لا ينحاز للعاطفة العربية الجمعية، ولم تقاطع، وظلت على حيادها، رغم كل الهجوم الذي شنّ عليها، إلى أن عاد العرب إلى أحضان مصر لاهثين، مهرولين، معتذرين، وحفظت عُمان ماء وجهها من خلال مبدأ الحياد الإيجابي الشجاع.

وفي الحرب العراقية الإيرانية، أراق عرب الخليج خزائن ثرواتهم لنصرة "أخوهم على ابن عمهم"، ووقفت عُمان على مبدأها، لأنها تؤمن أن الحرب ستنتهي، وأن الجغرافيا لا تتغير، ودفع الخليجيون ثمن اندفاعهم لنصرة صدام حسين غاليا، ودفعت الدول الصغيرة ثمنا باهظا من استقلالية قرارها لصالح الدول "الشقيقة" والجارة التي ناصرتها، ونصرتها، وظلت عمان بعيدا عن الانحياز لأطراف تلك الحرب، لذلك نظر إليها الإيرانيون والعراقيون والخليجيون بل والعالم أجمع ككعبة يزورونها لإرساء السلام على هذه البقعة الزيتية الملتهبة من الكون.

وحين أرد العرب الانتقام من النظام السوري في بداية الأحداث السورية المؤسفة قبل عدة سنوات، واستخدموا الجامعة العربية لتنفيذ مخططهم، وقاموا برفع علم المعارضة، وطرد النظام، لم تكن عُمان راضية عن ذلك وأبدت تحفظها وموقفها بكل شجاعة وحيادية، بينما قامت الدول التابعة بالسير في ركب الدول المتبوعة، وها هم اليوم يعودون إلى البرجماتية السياسية بعد أن فشل المخطط.

وحين شنّت قوات التحالف العربية حربها ضد اليمن نأت عمان بنفسها عن "الركب المركوب"، لذلك لم تدنس يدها بدماء اليمنيين، وظلت الظل الظليل في الجزيرة العربية، رغم حملات التشويه التي حيكت ضدها، ولكن ذلك لم يثنها عن موقفها الصلب.

وحين رفضت عمان العملة الخليجية، والوحدة التي تقفز على معطيات الواقع، لم تثنها دولة صغيرة أو كبيرة عن موقفها، وزأرت كأسد لا يخشى التصريح برأيه، وقالت بوضوح "لا" بالفم الذي سمعه العالم، ولم تدس رأسها في الرمال.

الحياد الإيجابي هو سياسة الأقوياء الذين لا تثنيهم عن قناعاتهم هوى أو عاطفة، إنّها سياسة الثبات على المبدأ في محيط متلاطم من السياسات العاطفية المتخبطة التي تحيط بنا من كل حدب وصوب، إنها سياسة النأي بالنفس عن فضيلة المثل البدوي القائل: "أنا وأخي على ابن عمي، وأنا وابن عمي على الغريب"، سياسة كهذه تحتاج إلى قوة، وشراسة، وشجاعة لا يجيدها سوى المقاتلون الأشداء الذين لا تهيبهم تهديدات الآخرين، ولا وعيدهم، ولا تأبه لشظايا الكلمات الرعناء التي تنطلق من هنا وهناك.

إنّها سياسة الثبات على المواقف والاستقلالية بالرأي دون إمعّة، ولا تبعية- أيّها الكرام- وليست سياسة الخيام التي تسقط عقب كل عاصفة، وريح.

فتعلموا من سلطنة عمان سياسة الأسد الشجاع، وكفاكم لعبا على عاطفة الشعوب، وحبال السياسة الهوجاء.

Samawat2004@live.com