أمة الأشخاص لا المؤسسات

 

عبدالله العجمي

 

لم يعد التحدّي الذي تواجهه أمتنا الإسلامية والعربية في هذا القرن هو نفسه ذلك التحدي الذي حاول البعض - ممن رفع شعار التنوير والتجديد في القرن الماضي - الوقوف في وجهه والتصدّي له، كالإمام محمد عبده والإمام موسى الصدر والإمام جمال الدين الأفغاني وغيرهم، فتحدي هذا القرن أخطر، خاصة أنه ركّز استهدافه على الأساسيات كالانتماء والثقافة ليعرّج بعدها على المصير أيضاً، والدلائل الماثلة على ذلك كثيرة، كالعراق وسوريا وليبيا وغيرها..

ولعل من يراجع خط الزمن الواصل بين بداية القرن العشرين والقرن الحادي والعشرين، يجد في تطوراته بعض القواسم المشتركة لهذه المشكلة، أهمها وربما أبرزها هو ما أوجدته من فوضى ثقافية أسّست لبعض السلبيات في شخصية الإنسان المسلم والعربي تحديداً، بدأت كسلبيات نفسية ثم تنامت لتكون حركيّة، خلّفت فوضى سياسية واجتماعية لم يسلم منها إلا القليل.. وقد أبعدتنا هذه الفوضى عن استيعاب ومواكبة الكثير من التطوّرات والمتغيرات التي أحاطت بالمنطقة وأدخلتنا في غيبوبة عِلمية وثقافية وسياسية فوّتنا خلالها الكثير مما حدث في هذا العالم، وأخذنا موقف المتفرج والمتحفّظ رغم أن أغلب دول المنطقة كانت ترزح تحت وطأة الاستعمار الذي لم يفكّروا في التَّحرر منه إلا مع بداية الخمسينات، فصارت المنطقة أرضاً خصبة لنشاط بعض التيارات في إطار سياسي مواكبة لهذه المرحلة.. مما حدا بغالبية هذه التيارات الثقافية والفكرية منها إلى التأرجح ما بين الماركسية والقومية.. لتدخل إسرائيل بعد ذلك على الخط، مستمدّة من الخطة الدولية لزرعها بيننا بالعمل على توسيع تلك الفوضى، وسرعان ما ثار بركان الصراعات الأيديولوجية لدرجة أنها صارت بديلاً عن الصراعات الطائفية والمذهبية، لذا لو لاحظنا أنَّ الخلافات المذهبية انكفأت عن الساحة خلال الخمسينات والستينات والسبعينات من القرن الماضي، بينما كانت الاستخبارات الغربية والإسرائيلية تعمل جاهدة على قتل روح المقاومة لدى شعوب المنطقة.. ووأد أي محاولة لرفع هذا الشعار، حتى لا تتكوّن أي جبهة تهدد الكيان الصهيوني، لذلك غاصت شعوب المنطقة في الفوضى الفكرية التي زاوجت بين ذهنية الرجل الشرقي وتاريخه الثقافي، وقد لوحظ حينها تشابه الأيديولوجيات العلمانية والماركسية مع الإسلامية في بعض أساليبها وإن اختلفت الأهداف، فعندما كانت تصف التيارات الإسلامية المتشددة مخالفيها بالتكفير والضلال، ففي المقابل فإن التيارات العلمانية استخدمت نفس الأسلوب ولكن بتعبير آخر كالخيانة والتحريف.. وظهرت لنا مشاكل تحزّبية وسياسية شغلتنا عن كل ما يدور حولنا، ودُفِنت الأهداف المحددة من قبل كل تلك الآيديولوجيات تحت أقدام هذه المشاكل الآنيّة..

والمُلاحَظ أيضاً أن المشاكل التي حدثت في منطقتنا العربية والإسلامية وامتدت إلى دول العالم الثالث.. تكمن في أن الثورات التي هزّت المنطقة لتدفع بشعوبها إلى التقدّم كما حدث مع الثورة المصرية (عربياً) أو الثورة الإسلامية في إيران (إسلامياً).. حوصِرت بكمٍّ هائل من سلسلة التعقيدات الداخلية التي قلّلت من وهجها، تبعتها تحركات دولية حثيثة في محاولة للتقليل من أهميتها وتشتيت انتباه البقية عنها، فحوّلتها بطريقة أو بأخرى إلى انفعالية تعاطفية وعصبيّة.. وأبعدتها -بطريقة ذكية- شيئاً فشيئاً عن أن تكون منطلقاً لتحرير الفكر والواقع.

وبرغم أن هناك قوى رجعية تعمل -بقصد أو بدون قصد- على محاولة العودة إلى الماضي بالرغم من وجود عقليات متفتحة ومثقفة وواعية.. لكنها مهمّشة ولا زالت تكابد تبِعات حصار التهميش والتخلف الكامن في جميع مجالات مجتمعاتنا.. ذلك التخلّف الذي يستمد قوّته من قوة الأنظمة السياسية المتخلّفة فكرياً وثقافياً وسياسياً.. فنراها تتحرك في إطار مصلحتها الآنيّة ومن خلال معاهدات جعلتها تقتصر في دورها الوظيفي على حماية المصالح لقوى الاستكبار حفاظاً على مصالحها هي، وحتماً أن الشعوب الأصيلة والعقول المنفتحة على قضايا مصيرية كالعدالة والحرية والعلم لا يمكنها الانسجام بأي حال مع هكذا واقع سياسي لا قيمة معنوية له ولا سياسية ولا حتى إنسانية.. خاصة وأن غالبية الساسة يحاولون فرض واقع التخلف والرجعية والجهل بالقوة..

ولعلّ السبب الرئيس في ذلك يعود إلى أننا لا زلنا نتمسّك بقيم البداوة في تصرفاتنا، دونما تهذيب لهذه القيم كأخذ الصالح وترك الطالح منها.. فلا يكاد يخلو بيت أو مدرسة أو مجتمع من طاغية متزمّت برأيه.. ولذلك لم نستطع أن نؤسس ونقيم أمة تعتمد على مؤسساتها، بل صارت أمتنا أمة أشخاص.. ونلاحظ أن الأمة تتلهف وتركض خلف كل شخصية تحمل ولو نزراً يسيراً من صفات (البطولة)، فلا يكاد يخرج لنا بطل إلا ونهرول خلفه لنمنحه صفة العصمة التي لا نمنحها حتى للأنبياء، وتعامى المجتمع عن أن الشخص مهما كبُر وعلا اسمه فإن الخطأ وارد في أقواله وأفعاله.. لكن المجتمع يصرّ على منحه وإعطائه دور الآلهة.. فلا تسمح لأحد بانتقاده أو الاعتراض والرد عليه.. فصرنا نعيش في مجتمعات تمجّد الأفراد لا المؤسسات.. لذا فإن ما يفتقده عالمنا العربي والإسلامي هو شخصيات تستطيع أن تربط بين الماضي والحاضر، لتبدأ مرحلة تحرير الفِكر من الخرافة، وتشخيص عناصر التخلف للبدء في طردها، والنهوض بالأفراد ليقرأوا الواقع بكل وضوح ليتفتّح عقله على العالم الجديد بكل ما يحتويه من سلبيات وإيجابيات وتطورات، ويدخل لهذا العالم بخطى واثقة يعيش قضاياه ويتطلّع ليكون له موطئ قدم في كافة مجالات التطور الفكري والعلمي والتكنولوجي.

*رئيس لجنة الثقافة والتعليم بالاتحاد العربي الأفريقي للإعلام الرقمي