المجتمع لن يتحمل!

د. عبدالله باحجاج

قبل أن نحمل المجتمع ما "لن" يتحمله من جراء تصعيد وتصاعد سياسة الضرائب ورفع الدعم الحكومي عن خدمات أساسية، كان بالأحرى أولا، مراجعة شاملة  لفاعلية الصرف الحكومي، ومدى سلامة مساراته، وتناغمها مع طبيعة المرحلة الجديدة التي تؤسسها الحكومة، وهى مرحلة عدم الاعتماد على النفط كمصدر وحيد وحتى أساسي للثروة الوطنية في بلادنا.

وعندما نستخدم أداة النفي الجازمة والقاطعة "لن" في هذه القضية، فإن ذلك للدلالة القطعية لاستحالة المقدرة الاجتماعية على تحمل عصر الضرائب كما يطبق حاليا، وما ينتظر مجتمعنا خلال الأشهر القليلة المقبلة، من ضرائب ورسوم جديدة. وأداة النفي تفتح كذلك ملف التحولات المجتمعية نتيجة هذه الاستحالة، وكل من يطلع على تاريخية تأسيس هذا المجتمع منذ 1970م، سيتفق معنا منذ الوهلة الأولى على استخدامنا مفردة النفي؛ لأنه مجتمع تأسس على العلاقة الأبوية مع سلطته السياسية، وهى علاقة اتسمت بـ"التواكلية" في كل شيء، وفجأة تقطع هذه العلاقة، دون تهيئة المجتمع ماليا ونفسيا؛ بحيث يظهر لنا هذا التحول الإستراتيجي، وكأنه غير مدروس من كل نواحيه المختلفة؛ وبالتالي، ماذا نتوقع من نتائج أو انعكاسات على المجتمع؟ ولن تتضح لنا الإجابة عن هذا التساؤل إلا إذا ما عرفنا أن السياسات المالية والضريبية الحكومية الجديدة، قد أصبحت تعتبر المجتمع بديلًا أساسيا لمصدر الثروة الجديدة، وماذا عن النفط والغاز؟

قلنا في مقال سابق، إن أية زيادة سعرية عليهما، لن توظف لصالح رفع مستوى معيشة المواطنين بصورة مباشرة، وإنما ستذهب للصندوق الاحتياطي للدولة، وقد عبرنا في مقال آخر عن مجموعة تساؤلات للمواطنين بعد إنتاج الغاز وتصديره من حقل "خزان" الواعد، وهنا ستكون صدمة، عندما تنفجر الثروات من باطن الأرض، كخزان، ولا يستفيد منها المجتمع، بل وتتحول البوصلة إلى جيوب المواطنين لتمويل الموازنة السنوية للدولة. وكلنا نعلم حجم رواتب غالبية المواطنين الضعيفة والمحدودة. ومما سيزيد من عُمق الصدمة، تصريحات وزير النفط والغاز الأخيرة التي كشف فيها عن مساعي البلاد لرفع إنتاج النفط، ودعمه باستكشافات جديدة، ومع هذا فلن يستفيد منها المواطنون مباشرة، بل وستزيد حلقات الخناق الاجتماعي بضريبة القيمة المضافة المقررة العام المقبل 2018، في ظل استمرار الضرائب والرسوم الحالية، وسياسة رفع الدعم. هل هناك من يتفهم الآن لمبررات استخدامنا لمفردة النفي المطلق إذا ما تعمقنا في الفقرة الأخيرة؟ وهى فقرة تكشف لنا حلقات استحكام الخناق الاجتماعي، ندعوكم فعلا للتأمل فيها بعمق حتى تصل رسالتنا إلى قناعة كل فرد منا.

كل هذا يحدث، دون تهيئة اجتماعية لمرحلة الضرائب، ودون وضوح وشفافية، بل العكس، فقد صاحبه تطمينات من مستويات عليا بعدم المساس بالحقوق الأساسية للمواطنين، ولم تصمد هذه التطمينات طويلا، فسرعان ما كشفت الحكومة عن ضرائب ورسوم جديدة، ووعدت بأخرى كبيرة، تمس العُمق الاجتماعي في حاضره ومستقبله، فماذا تتوقع الحكومة من نتائج/تداعيات، إذا ما واصلت الحكومة تطبيق منظومة الضرائب والرسوم الجديدة كما هو مخطط؟ وما يسرب أو يتسرب منها، يجعلنا فعلا، نتساءل: إلى أين نحن سائرون بهذا المجتمع الآمن والمطمئن في سربه وفي قوت يومه؟ لم يعد الجهل بالنتائج أو التداعيات، حالة ينتابها الشك، وإنما أصبحت واضحة رغم عتمة الليالي السياسية التي تخيم على الواقع السياسي الخليجي، والتي تجعلنا نتوقع الأسوأ في كل ثانية -لا قدر الله- لأنَّ ما يحدث في هذا الواقع غير مُتوقع، وغير مسبوق، ويصاحبه خطابات سياسية متوترة جانحة نحو تطرف الاستهداف المجتمعي الذي هو أصلا من صناعة بعض الأنظمة الخليجية طوال العقود الماضية. فالواقع الخليجي -للأسف- يشهد الآن متناقضين متزامنين؛ هما: خطاب سياسي يتوعد الداخل الديني، ويستخدم وسائل الترهيب الاجتماعي بصورة منفعلة شبيهة بالخطابات اليمينية في أوربا، وسياسات مالية وضريبية نيوليبيرالية، قد أصبحت أوروبا الآن تدفع ثمنها غاليا.. إذن، إلى اين تسير منظومتنا الخليجية بمجتمعاتها؟!

ورغم حالة العلم بالاستحالة المطلقة، التي نلمسها كذلك عند فاعلين حكوميين، فإنَّ التنفيذية الحكومية تبدو غير مُكترثة بها تماما، ولا تربط سياساتها المالية والضريبية بمدى انعكاساتها المجتمعية، وتبدو لنا هنا أمينة في تنفيذ نصائح صندوق النقد والبنك الدوليين، بحذافيرها، رغم وجود الكثير من الدواعي التي تحتم المراجعة والعدول؛ من أهمها: ارتفاع أسعار النفط، واكتشافات النفط والغاز الجديدة، فجل اهتمامها العمل على تحقيق خفض مساهمة النفط والغاز، فمثلا الغاز من (3.3% إلى 3%) خلال المدى المنظور، دون الاعتداد بحدث كبير مثل حقل خزان، ودون الاعتداد بخروجنا من مرحلة ضغوطات انخفاض أسعار النفط، ودون الاعتداد كذلك بقضية كفاءة الإنفاق العام؛ حيث من الملاحظ أن فيه هدرا للمال العام حتى الآن، فلا يزال الصرف الضخم على الدراسات والمؤتمرات وغيرها، وكذلك على المشاريع الحكومية. ولنا أن نستحضر هنا، مشروع بناء قاعة في إحدى المديريات العمومية في ظفار، فمركزيًّا حدد لها مبلغ أكثر من 90 ألف ريال، بينما استطاع مديرها العام الجديد، وباجتهاد منه، أن يقيمها بـ18 ألف ريال فقط!! وهذا نموذج واحد لعدم كفاءة الإنفاق، واستمراره كأننا لم ندخل في سنوات عجاف، ويظهر كذلك أن العبء ينبغي أن يتحمله المجتمع فقط.

وماذا يعني مما تقدم؟ هناك إمكانية كبيرة لإعادة النظر في المسير الجديد الذي انطلق في منتصف العام 2014؛ لأنَّ المجتمع لن يتحمله، ولأن المجتمع يشكل المكون الأساسي للدولة، وواجب الحفاظ على قوته من بين أولى الأولويات، والإمكانية الآن متوفرة أكثر مما سبق، والقادم يفتح لبلادنا أبوابَ التفاؤل في العمل الممنهج والهادئ الذي يحقق لنا الأجندة الاقتصادية مع الحفاظ على قوتنا الديموغرافية، صحيح الكل مع مرحلة ما بعد النفط والغاز، لكن لن تكون بين ليلة وضحاها، ولسنا الآن تحت ضغط يحتم أن تكون جيوب المواطنين المصدر الأساسي للثروة في بلادنا، ويمكننا أن نصل إليها بمنظومة ضرائب عادلة وآمنة، بالتزامن مع رفع إنتاجية القطاعات الاقتصادية، والعمل على كفاءة الإنفاق العام بدلا من هدره، وهذا هو طبيعة المسير الجديد المعدل للمسير الذي استحدثه ضغوطات انخفاض أسعار النفط، ومرحلة ما قبل حقل خزان للغاز، ودون ذلك، فإننا نقفز بالمجتمع للمجهول -لا قدر الله- فهل وصلت رسالة المراجعة العاجلة؟