د. عبد الله باحجاج
تمَّ يوم الجمعة (25) سبتمبر الماضي إنتاج الغاز من حقل خزان الواعد، وتصدير أوَّل شحنة مستخرجة منه، وهذا الحقل يُعد الأكبر من نوعه في بلادنا، فمن خلال مرحلتين منه، فقط، يتوقع أن يبلغ إنتاج الغاز ثلث إجمالي إنتاج الغاز العُماني الحالي، فكيف بمستقبل بقية المراحل التطويرية خاصة وأن الحاجة ستحتم حفر (300) بئر خلال (15) سنة مقبلة؟ وهذا يعكس لنا ضخامته وإمكانياته الهائلة.
وأثناء الكشف عن الإنتاج من هذا الحقل، تحدث بعض المسؤولين النفطيين وكذلك وسائل الإعلام الحكومية والخاصة عن عصر جديد للسلطنة.. وأوضحوا كذلك أن جني أرباحه سيبدأ في الربع الأخير من العام الحالي 2017، أي قريبا، كما فتحوا الآفاق عن تطورات مماثلة مُقبلة، وقد جاء هذا الكشف في توقيته المناسب بأدق الحسابات، وبتعددها وتنوعها، وتحدياتها، بعد أن اتخذت الحكومة سياسات مالية واستحدثت منظومة ضرائب ورسوم مؤلمة اجتماعياً تحت ضغوطات انخفاض أسعار النفط.
وهنا تطرح مجموعة تساؤلات مجتمعية، أبرزها:
س: هل حقل خزان سيخفف الثقل عن كاهل المجتمع أم ستمضي الحكومة قدماً في سياساتها المالية والضريبية وكأن حقل خزان لم يكن؟
س: وبكم يباع الغاز العماني الجديد؟
س: أين ستذهب عوائد خزان المالية إذا كان المجتمع لن ينتفع منها في أزمته الراهنة؟
من حيث المبدأ، فإنَّ الكشف عن الإنتاج والتصدير، وتطورات الغاز الأخرى المقبلة والواعدة في ظل ارتفاع أسعار النفط، تجعلنا نتمسك بالثقة بكل قوة، وتعيد لنا الأمل من أوسع أبوابه، وتدحض أي قول سيتحدث عن المشكلة المالية في بلادنا، فكل تصريحات كبار المسؤولين- للأسف- الأخيرة، تصنع السلبية، وتعمقها، وترسم مخاوف مرعبة، غير واقعية أبدًا، فبلادنا بخير بخيراتها المتجددة، وقدرها أن تظل كذلك، أي على خير مستدام، وحتى عندما تواجه بلادنا أزمة، فلن تحتمل هذه الأزمة المكوث عندنا طويلاً، لأنَّ بلادنا خيراتها كثيرة ومتجددة.
وإذا كانت هناك مشكلة، فجوهرها في تفكيرنا، وفي طرق مُعالجتنا لها، بدليل، حقل خزان الذي جاءت بشائره في خضم هذه الأزمة، لذلك، يمكن القول إنّه لن تكون هناك مشكلة - مبررة لاستمرار الخناق- خاصة في موازنة 2018، فلا يمكن تجاهل ما يستغل حتى الآن من إمكانيات حقل خزان التي تشكل ثلث إنتاج السلطنة من الغاز حالياً، فهو سيوفر فورا دخلا إضافيا للدولة، وسيعوض الفاقد الذي سببه تراجع أسعار النفط، وهو فاقد بدأ يتقلص، وسيتجه إلى التقليص أكثر في ضوء مؤشرات تمديد اتفاق خفض الإنتاج بين منظمة أوبك والدول النفطية من خارجها، فلنتفاءل، ولينعكس التفاؤل على موازنتنا المقبلة. فبلادنا قد دشنت عصرا ذهبيا للغاز، يعيد إلى أذهاننا العصر الذهبي للنفط، فهل سنشهد خلال الموازنة المقبلة إعادة النظر في القبضة الحديدية المتصاعدة للسياسات المالية والضريبية؟.
كلٌ من يُفكر بعقلية رجل دولة، سيجد نفسه أمام ضرورات التخفيف من حلقات الخناق الاجتماعي، وكبح جماح سياسة النقلة نحو دولة الضرائب، أو على الأقل عقلنتها، فالظرفية المالية لموازنة عام 2018 مواتية، والضغوطات الاجتماعية المقبلة كبيرة، والحل الجزئي للمشاكل الناجمة عن سياسة النقلة، لم تعد ناجعة، فإذا تمكنا الآن من إخماد احتقان قضية الباحثين عن عمل، فهناك مجموعة احتقانات ينبغي العمل على إبطال مفعولها عبر خطط ممنهجة وواضحة، وليس عبر الاستمرار في الخناق. وهنا لا ندعو إلى البقاء على مفهوم الدولة الريعية أو الاعتماد على النفط والغاز، وإنما نرى إعادة النظر في سياسات ومسارات التحول في دور الدولة الجديد، فالرهان على منظومة الضرائب والرسوم في تمويل خزينة الدولة لم تعد ظروف التفكير فيه قائمة، ولا ضاغطة تمامًا، كما أن تجربتنا معه حتى الآن ليست آمنة ولا مطمئنة، وتسير بنا إلى طرق كلها منحنيات خطرة، وبالتالي لا ينبغي مسايرة الآخرين في الضغط على مجتمعاتهم عبر القبضة الحديدية لمنظومة الضرائب والرسوم، وإنما ينبغي الآن التخفيف منها، ودراسة مدى تحمل البيئة الاجتماعية للضرائب والرسوم وفق مراحل زمنية مواتية مرتبطة بالقدرة المالية المجتمعية، دون التخلي عن إستراتيجية مرحلة ما بعد النفط.
كما أن الاستماع إلى كل نصائح البنك وصندوق النقد الدوليين، قد أدى بالدول التي استسلمت لها إلى نتائج عكسية خاصة على الصعيد الاجتماعي، كما أنها نصائح مكررة في الدول الخليجية الست، مما يستوجب المراجعة الآنية مع الحفاظ على مبدأ التحول من مفهوم الدولة الريعية إلى الدولة المنتجة التي تتوافر لها كل مقومات الإنتاج في الخمس قطاعات التي حددتها الرؤية 2040، وهي التعدين والصناعة واللوجستيات والثروة السمكية والسياحة، هي رهانات بلادنا الحقيقية، وتتيح لنا عوائد الغاز الجديدة/ وملامح عصر الغاز الجديد الفرصة التاريخية في توظيفها لصالح صناعة الاستدامة الاقتصادية الطموحة، فهل سنفوتها، كما فوتنا الفرص الذهبية التي أتاحتها العصور الذهبية للنفط؟.
الأهم هنا، دراسة الآثار السلبية للسياسات المالية والضريبية - الراهنة والمستقبلية - على قضية العدالة الاجتماعية في بلادنا، وهذه قضية لابد أن تتصدر الاهتمامات الحكومية، لأنها محمية دستورياً بمواد صريحة، وأخرى ضمن سياقات استهدافية، أبرزها المادة (11) الخاصة بالمبادئ الاقتصادية، ففي فقرتها الأولى، تجعل من هدف إقامة نظام اقتصادي وطني، تحقيق غايتين هما، تنمية اقتصادية وأخرى اجتماعية.. لماذا؟ لزيادة الإنتاج ورفع مستوى معيشة المواطنين، وقد ورد ذلك تنصيصا في تلك المادة من النظام الأساسي للدولة لعام 1996. إن هذه المرجعية الدستورية تشكل شرعية مطالبتنا بالمراجعة الوطنية لمنظومة الضرائب والرسوم في بلادنا، ووقف اندفاعية تطبيقاتها دون الاعتداد بالإيرادات المالية الجديدة لعصر الغاز الجديد، وتحسن أسعار النفط. فمثلاً، ينبغي دراسة وقف تطبيق ضريبة القيمة المضافة، وإعادة النظر في ليبيرالية سوق الوقود في بلادنا.. إلخ، وذلك لما لها من تأثير سلبي مباشرة على مستوى معيشة المواطنين، وربما تكون هذه الأخيرة- أي تحرير الأسعار الداخلية- تشكل أولوية الأولويات لبعض الولايات البعيدة عن مراكز العمل والخدمات، مما يجعل فاتورة الوقود عليها ثقيلة.
إذا لم تنعكس إيرادات الغاز الجديدة على العيش الكريم للمواطنين، فأين ستذهب هذه الإيرادات؟ هذا التساؤل نجد إجابته في "الرؤية العمانية 2040"؛ حيث تنص على خفض مساهمة النفط والغاز في موازنة الدولة بصورة تدريجية، وترى أن أية زيادة في أسعار النفط والغاز ينبغي أن تذهب للصندوق الاحتياطي للدولة.. أي لن تنعكس على مستوى رفع معيشة المواطنين مباشرة طوال مراحل إعادة هيكلة الاقتصاد العماني. وهنا عملية استدراكية ينبغي أن تحصل كذلك، لدواعي اجتماعية ضاغطة الآن في ظل وضعية مالية مواتية لم تكن مسبوقة سابقًا، وإلا؛ فهل من المصلحة الوطنية في ظرفيتها الآنية أن تذهب كل إيرادات الغاز الكبيرة إلى الصندوق، ونترك مستوى معيشة المواطنين يتراجع؟ وهنا سنجد أنفسنا أمام إشكالية دستورية من جهة وأمام قضية عدم استفادة الجيل الحاضر من عصر الغاز الذهبي.
ما نؤكد عليه أخيرًا، هو أننا في مرحلة تحتم فعلا مراجعة المسير الجديد بعد أن توفرت لبلادنا أدوات الثقة الجديدة- إيرادات الغاز وارتفاع أسعار النفط- لكي نمضي في استراتيجية إعادة هيكلة اقتصادنا بكل هدوء وبأقل الخسائر الاجتماعية والاقتصادية.