حميد السعيدي
يمثل التعليم هاجساً وطنياً يشغل فكر الكثير من المفكرين والباحثين والإعلاميين؛ نظراً للأهمية الكبيرة التي يمثلها هذا القطاع في مستقبل الوطن؛ لذا فقد جاء من ضمن أولويات اهتمام جلالة السلطان المعظم -حفظه الله- الذي أعطى أهمية قصوى في توجيه الحكومة لتوفير منظومة تعليمية عالية الجودة، انطلاقا من كلمته التي قالها: "سنعلم أبناءنا ولو تحت ظل الشجر"؛ إيمانا منه بأن التعليم هو مستقبل عُمان، وأن أبناءها هم سواعد البناء والعطاء، ولم يؤول جلالته وقتاً أو جهداً من أجل بناء هذه النهضة العظيمة، وأعطى الثقة الكبيرة في المسؤولين في القيام بواجبهم في تنفيذ توجيهاته في إدارة المؤسسات في مختلف القطاعات.
لذا؛ انطلقتْ النهضة العُمانية من المدرسة، وحمل المعلمون لواء بناء المستقبل، فقد استطاعت المدرسة أن تشق طريق النهضة في مختلف مناطق عُمان، لم تتوقف عند السهول أو الجبال أو الصحاري؛ فكانت الرغبة حقيقية في الوصول إلى الطالب العُماني أينما كان مقر إقامته على هذه الأرض، من أجل بناء الشباب العُماني القادر على أن يقدم الفكر والابتكار والإبداع في صناعة مستقبل عُمان.
ومع التقدُّم الذي يشهده العالم في مختلف القطاعات، خاصة قطاع التعليم، لما له من تأثير على مختلف القطاعات الأخرى، خاصة التنافسية الاقتصادي، كانت النظرة السامية من جلالة السلطان تضع مسارًا آخر في مجال التعليم، وتضع أمام المسؤولين حمل الرسالة في توجيهه لهم بضرورة مراجعة التعليم وتطوير منظومته؛ وذلك في خطابه السنوي لمجلس عمان في العام 2011م: "لما كان التعليم هو الركيزة الأساسية للتقدم والتطور ولإيجاد جيل يتحلَّى بالوعي والمسؤولية ويتمتع بالخبرة والمهارة ويتطلع إلى مستوى معرفي أرقى وأرفع، فإنه لابد من إجراء تقييم شامل للمسيرة التعليمية؛ من أجل تحقيق تلك التطلعات والاستفادة من فرص العمل المتاحة في القطاعين العام والخاص"، وجاءت هذه الدعوة إيمانًا منه بأن التعليم بحاجة لإعادة تقييم من أجل الخروج برؤية حديثة في تطوير التعليم، وضرورة العمل على إيجاد الطرق والأساليب التي تنهض بالتعليم.
واليوم، وبعد مضي أكثر من ست سنوات على هذا التوجيه السامي، نتساءل: هل حدث للتعليم نقلة نوعية تعكس الرغبة الحقيقية في عملية تطويره بما يتوافق مع التقدم الحديث الذي يشهده العالم؟ والإجابة عن هذا السؤال تدفعنا لقراءة واقع بعض الدول التي وجدت ضالتها في التعليم؛ فهو يعتبر أهم العوامل التي تسهم في تطور الدول وتحقيق التنافسية الاقتصادية، والمطلع على عملية تطور التي حدثت لبعض الدول خلال الفترة الماضية يجد أن التعليم كان هو العامل الرئيسي في تحقيق التقدم والنمو الاقتصادي؛ لذا لم يغِب التعليم عن تصريحات المسؤولين في كوريا الجنوبية وسنغافورة وفنلندا عن دور التعليم وجودته في أحداث عملية التغيير؛ بحيث انعكس ذلك على المستوى الاقتصادي، وأصبحت من أكثر الدول التي تشهد العديد من الابتكارات في مختلف المجالات الاقتصادية، والتجربة الأمريكية خير مثال؛ فعندما وجدت أن خصمها الاتحاد السوفييتي قد تقدم عليهم في الكثير من المجالات العلمية والطبية والعسكرية والفضائية، ظهرت المناداة بقوة من أجل إنقاذ الأمة الأمريكية فاعتلى شعار "أمة في مواجهة الخطر"، واتجهت الحكومة والشعب إلى المدرسة، وهناك كانت البداية لإنقاذ الأمة من السقوط، وبعد سنوات تجاوزت أمريكا الاتحاد السوفييتي وحققت العديد من الإنجازات في مختلف المجالات، بل كان لها الدور الكبير في التحكم في العالم نظراً للقوة الاقتصادية التي تمتلكها.
واليوم.. أصبحت قضية أسعار النفط وارتفاعها وهبوطها أزمة وطنية من حيث تأثر كافة القطاعات والخدمات والمواطنين بهذه الأسعار؛ مما يجعلنا نضع أيدينا على قلوبنا مما يحدث بالمستقبل، فهل سنظل رهين هذه السلعة؟ وماذا سيحدث لو نفذت؟ بالرغم من أن كل الدراسات والأبحاث أثبتت أن هناك كمية معينة سوف تنفذ في زمن ما، فماذا أعددنا لذلك اليوم؟
لذا؛ فإن التوجيه الذي جاء من جلالة السلطان قابوس بن سعيد يجب أن يكون نصب أعين المسؤولين في المؤسسة التربوية، وأن يكون مسبارا لهم على كل الأعمال والمشاريع التي يقومون بها من أجل النهوض بهذا الوطن؛ ولكن ما نشهده من واقع معاش لمنظومة التعليم يجعلنا ندرك جيداً أن التغير الذي حدث خلال الفترة الماضية لم يكن يرضي الطموح، ولا يحقق رغبة الشعب في بناء مستقبل واعد يقوم على سواعد أبناء هذا الوطن، فهو لم يستطع أن يحقق تلك الطفرة الاقتصادي، تُمكن من إعادة التفكير في تنويع مصادر الدخل، ولم يتمكن من معالجة مشكلاته، فالدراسات الدولية التي تم الدخول فيها من أجل تقييم التعليم أثبتت بما يدع مجالاً للشك أن التعليم بحاجة لإعادة بناء من جديد، والاعتماد على الكوادر الوطنية القادرة على النهوض به، فلا يمكن الاستمرار بهذا الوضع دون إعادة التجديد في القدرات الوطنية القادرة على إيجاد الفكر الحديث في بناء منظومة تعليمية حديثة، لأننا نمتلك كل المواهب والقدرات ذات الفكر الحديث، القادرة على إعادة ترتيب أوراق التعليم المبعثرة من جديد؛ فنحن لسنا بحاجة للذهاب إلى سنغافورة أو كوريا الجنوبية أو فنلندا، لأن هذه الدول اعتمدت على أبنائها في تطوير التعليم، الوطن يمتلك من المفكرين والباحثين والأساتذة ما يمكنهم من المشاركة البناءة في رسم مستقبل تعليم عُمان نحو لأفضل، وصناعة منهجية جديدة تعتمد على تقديم تعليم عالٍ الجودة، يركز على عناصره الرئيسية سواء بناء الكفاءات الإدارية والهيئة التدريسية وفقا لمعايير الجودة العالمية، والتركيز على بناء مناهج وطنية تركز على مهارات التفكير العليا، وتعتمد على فكر المتعلم في بناء المعرفة، والبحث عن مصادر الابتكار والإبداع في عقولهم، وبهذه العناصر الأساسية أن تمكنا من بنائه بصورة هادفة نستطيع أن نحقق مجداً جديداً لعُمان، فالتعليم الناجح ينعكس على الاقتصاد الوطني، والذي لا يمكن أن يقوم دون الاعتماد على السواعد الوطنية الشابة، والتي يجب أن تكون قادرة على ذلك؛ من خلال ما تمتلكه من مهارات وقدرات تمكنها من القيام بواجبها، وبما يؤهلها لقيادة عُمان نحو التنافسية الاقتصادية التي تضع عُمان بعيداً عن مسار النفط المضطرب دائما؛ لذا يجب أن يُعْطَى الشباب الدعم المادي والمعنوي الذي يمكنهم من المشاركة في بناء هذه النهضة التي يجب أن تكون في مقدمة الأمم مثل ما أرادها جلالة السلطان قابوس بن سعيد؛ فلقد حان الوقت أن تكون عند تلك الثقة العظيمة التي منحت لنا، أو نترك المجال لغيرنا إذا وجدنا أنفسنا غير قادرين على تحقيق تلك الرؤية السامية.
Hm.alsaidi2@gmail.com