تنمية الخيال العلمي تجاه الحقائق

عزيزة الطائي

يحتل أدب الخيال العلمي مكانة مرموقة في المجتمع المتقدم الحديث، ويحظى باهتمام علماء الطبيعة والرياضيات والفيزياء، كما يحظى باهتمام الأدباء وعلماء النفس، وكذلك لدى المعنيين بشؤون التربية والتعليم؛ لما له من أثر طيب في تنمية مدارك الطفل، وتوسيع آفاقه، إضافة لسلامته النفسية.

وتدور أنواع هذا الأدب حول الاكتشافات العلمية، والاختراعات المحتملة، والتطورات التقنية، والحروب بين سكان الأرض والكواكب الأخرى، والتنبؤ بما يمكن أنْ يصل إليه الإنسان في المستقبل كثمرة لتقدم العلم والاختراع، إضافة إلى الإنسان الآلي وقدراته الهائلة. كما تتفق حكاياته مع التقدم العلمي في مجالات العلم والتكنولوجيا، بل إن هناك من يرى أن هذا التقدم المعاصر المدعوم بقدرة العقول الإلكترونية قد فاق خيال الكتاب والمؤلفين.

إن هذا اللون من الحكايات إذا أُحسن إعداده يمكن أن يرقى بالأطفال إلى مستوى العصر، فيعمل على تنمية خيالهم، وتكوين عقلياتهم العلمية، وإعدادهم لعالم الغد بما فيه من تطورات تقنية، وإنجازات إلكترونية. وغني عن التأكيد أن كاتب الأطفال بحاجة للتعرف على ألوان الخيال التي تتناسب مع مراحل نموهم المختلفة، خاصة الخيال الإيهامي، والخيال الحر.

لقد درج عند الكثيرين بأن الأسطورة ما هي إلا اعتقادات قديمة، تخلط بين الواقع والخيال، بينما هي لدينا تعبير دارج لكل ما هو خارق وغير محسوس، بل غير قابل للقياس والاستيعاب في حدود الواقع! فهناك الكثير من الحكايات المنسية في تاريخنا وثقافتنا.. حكايات لها طعم مختلف، تمتزج حينا بالغرابة، وأحاين أخر باللامعقول!! ولكن هل يمكن لنا أنْ نحلق بأطفالنا إلى أساطير الخيال، ونبحر معهم إلى عالم الأرقام؟ أنْ نقيس سكوننا ودهشتنا، إقدامنا وإحجامنا، وكل عواطفنا، وما تحمله حياتهم من عجائب ومغامرات، كي نؤكد لهم حقيقتها وخيالاتها، دلالاتها وفضاءاتها؟!

وبما أن الخيال في جوهره هو الجانب اللاواقعي في حياة الإنسان العقلية والانفعالية بالرغم من كون عناصره ومقوماته مستمدة أصلاً من البيئة الطبيعية والاجتماعية التي يعيش فيها الإنسان، فإنه في المحصلة يتحول إلى خيال يعبر عن نفسه في التأليف أو الجمع غير المألوف بين أشياء محسوسة موجودة على نحو مبعثر ومتباعد في الزمان والمكان؛ لغرض إظهارها بأشكال جديدة غير مألوفة من حيث علاقتها ببعضها. فكلما ابتعد الخيال عن الواقع المحسوس كان ارتقى بحيث يوحي للطفل بأنه حدث جديد برغم الاختلافات الكبيرة والكثيرة في تباين آراء الكبار والصغار الناجمة عن الفرق في النضج الاجتماعي، والقدرة على التعبير.

نتجول معهم في الغابات والأدغال، ونعبر بهم البراري والصحاري، ونمارس معهم هواية الرسم على جدران كهوف الجبال الغامضة، نحاور أبا الهول في القاهرة، ونرحل بهم مع السندباد، ونعيش في مدينة  العُميان لهيربرت.ج. ويلز التي لا تزال من أروع قصص الخيال العالمية، نستمد الموروث الثقافي من قصص الخوارق، ثم نعبر برفقة فاسكو دي غاما المحيط الهندي، ونستفيد من نظرية الجاذيية لنيوتن لحبكة قصة من الخيال، ونحدثهم عن غرق أطلانتس القارة المفقودة.. نبحث عن قطع الحجارة الناقصة، ونجول بهم حول الكائنات الخارقة المنسية كالتنين، والغول، والعنقاء، نوجههم كيف يعرفوا رمز الحكاية، نطالع معهم أسفار وخرائط موغلة في القدم، ليحلقوا مع قصص التاريخ العجائبية، وما تحمله من حقيقة وخيال. كثيرة هي القصص التي نتناقلها بأسلوب بسيط؛ لكنها تقودنا إلى التفكير بعالم الخيال؛ فمن اليسير أنْ نتسلى بالصور المثيرة، ونتلاعب بالأرقام الجميلة على شكل معادلات رائعة المنطق، ثم نقف عند ذلك، وننتظر حتى يأتي من الطفل استفسارًا كبيرًا يكشف لنا هذه المعادلات في حياتنا.

ومن الرائع حقًا أن يشغف الطفل بالخيال؛ إذ يخرجه من بوتقة الواقع إلى عالم متكامل مصنوع من الأفكار العلمية، التي دائمًا ما تشحذ خيالهم فتجعل المستحيل ممكنا. فعندما نتجول في رفوف التاريخ نتوقف بين الفينة والأخرى عند وقائع غامضة، ومربكة تدفعنا إلى تجاهل حقائق هي أشبه بالخيال. ومن المهم أنْ نراعي التوازن والحكمة عند كتابة القصص وعرضها، بما يساعد على تنشئة أطفال أسوياء، لا يصرفهم خيال القصص عن واقع الحياة، بل يساعدهم على ممارستها بأسلوب صحيح سليم من غير أنْ نحرمهم متعة الخيال.

يعيش أطفالنا في هذا الزمان حياة متسارعة متجددة حياة مليئة بالمتضادات والمتناقضات على كافة الأصعدة؛ فهل يمكن أنْ نسير بهم إلى أساطير المستقبل؟ وهل يمكن لنا أنْ نصوغ لهم قصص المعجزات الإلهية كفتية الكهف، وعصا موسى السحرية، وقدرات عيسى الخارقة، وطوفان نوح ذلك الطوفان الذي أغرق الأرض بما يتلاءم ومتطلبات خيال العصر، كيف لنا أنْ نحكي لأطفالنا حكاياتنا الماضية والحاضرة بأدبيات الخيال العلمي، حتى يستشرفوا على مستقبل أفضل؟!

إن التفكير العلمي يمنح الطفل وعيًا صادقًا بالحياة والطبيعة والنفس والمجتمع والتاريخ، وهو ليس حشدًا للمعلومات العلمية أو معرفة طرق البحث في ميدان معين من ميادين العلم، إنما هو نوع من التفكير المنظم الذي يقوم على مجموعة من المبادئ مثل مبدأ استحالة الشيء ونقيضه في آن واحد، والمبدأ القائل إن لكل حادث سببًا، وأن من المحال أنْ يحدث شيء من لا شيء، وهو طريقة في النظر إلى الأمور تعتمد أساسًا على العقل والبرهان بالتجربة والدليل.

إن الغاية من تنمية الخيال تثبيت صورة ناجحة في ذهن الطفل حيال بعض المشاكل والقضايا، الأمر الذي يجعله يتصرف دونما خوف أو رهبة؛ لأن الخيال أسقط الخوف والرعب لديه، ودفعه للتصرف بشجاعة ورباطة جأش. وهذا ينسجم مع مقولة لكاتب الخيال الفرنسي جون فيرن Jules Ferry "العلم يا بني مكون من الأخطاء، لكنها أخطاء من الصواب اقترافها. لأنها تقودنا خطوة فخطوة إلى الحقيقة".

إن قصص الخيال العلمي تنسجم وحياة الطفل في البلدان المتقدمة حضاريًا؛ لأنها تواكب إنجازات حاضره علمية وترتقي بها. فهنا يتساءل القارئ، من أنا؟ ومن سأكون في المستقبل؟ ولعل هذا سيساعده على تحديد هويته التي لا تخرج عن الموازنة بين الروح والمادة في أية حياة تضمن لأبنائها الحد من هامش العيش. ويختلف مضمون السؤال إذا كان قارئ قصص الخيال العلمي من البلدان النامية حضاريًا؛ لأن هذا القارئ يسأل سؤال الهوية نفسه مع اختلاف واضح في المضمون. فهو يتساءل في أثناء القراءة: أين أنا من هذا التقدم العلمي؟ وأين سأكون في المستقبل العلمي؟ وهو بذلك يحدد هويته ضمن العالم النامي، ويحدد حجم الكارثة التي ستحل به في المستقبل إذا استمر على هذه الحال من التخلف العلمي.

وإذا كنا نخطط لإنتاج قصص الخيال العلمي علينا أنْ لا نحيد عن وظائفها التي تتجلى في: ترسيخ الثقافة العلمية على نحو مباشر أو غير مباشر تبعًا للمستوى العلمي لهذا القارئ من جهة، ولقدرة الكاتب على توضيح المعارف التي يستخدمها من غير أنْ ينطلق من معرفة القارئ لها أو من كونها بديهية في الثقافة العلمية. وتدريبه على تذوق لذة الكشف العلمي، وتحرير الخيال من التحليق الدائم قرب الواقع، وتفتح له آفاقًا يحلق بواسطتها في عالم المستقبل ضمن حدود الخيال العلمي. كل هذا يتطلب منا مساعدتهم على تلمس الحلول للمشكلات العلمية التي يفكرون فيها، أو حفز عقولهم على السير في طرق جديدة، ويسهم تحرير الخيال في دفع القارئ إلى التفكير في مستقبل البشرية، وخصوصاً الكشوف والاختراعات القادرة على خدمة الإنسان.