أقصر قصّة قصيرة جدّاً

د. يوسف حطيني ناقد فلسطيني ومحاضر في جامعة الإمارات

 

كم يبلغ طول أقصر قصة قصيرة جداً؟
اعتماداً على ما يقوله السرديّون لا يبدو الأمر معضلة كبيرة، فأقصر قصة ينبغي أن تتألف من واقعتين، والواقعة (Event)  تتجلى من خلال تعبير سردي يظهر حدثاً ما (مثل: غادر العصفور قفصه)، وإذا افترضنا أنّ هذه الواقعة هي بداية قصة قصيرة جداً، فنحن بحاجة إلى واقعة أخرى، أي تعبير سردي آخر، على الأقل، لننشئ أصغر حكاية ممكنة، تقود فيها الواقعة الأولى السردَ صعوداً نحو الذروة، في حين تقوده الواقعة الثانية نحو نهاية تسعى إلى إحداث مفاجأة (Surprise) تعمّق الإحساس بدلالة النص. ولا نعتقد أنّ قصةً قصيرة جداً يمكن أن تكون أقصر من ذلك.. اللهم إلا إذا خطر للمبدعين الذين ينشغلون بكسر قواعد النقد، أن يضعوا عنواناً ما يقوم بتأزيم الحالة، ليقودوها من ثم نحو الحل، عبر واقعة واحدة.
إنّ أقصر قصة، من وجهة نظر السرد، يجب ألا تتخلى عن حكايتها، وأدوارها الأساسية في مستوى البنية العميقة، ويجب أن تمكّن الناقد من تتبع مسارات تلك الأدوار، إذ إنّ في كل حكاية (رواية، قصة قصيرة، مسرحية، قصة قصيرة جداً، دراما تلفزيونية، أسطورة، ملحمة ...... إلخ) تظهر أدوارٌ اجتهد السرديون (خاصة سوريو وغريماس وبروب) في تتبّعها. فإذا انطلقنا من غريماس الذي يتحدث عن نظرية العوامل (Actants) وجدناه يشير إلى ستة تمثّلات لتلك الأدوار:
1 ـ الذات التي تتطلع لتحقيق هدفها.
2 ـ الهدف الذي تسعى الذات إلى تحقيقه.
3 ـ مرسل الذات في تحقيق مطلبها نحو الهدف.
4 ـ متلقّي الهدف الذي تسعى الذات لامتلاكه.
5 ـ المعين الذي يقدّم المساعدة للذات.
6 ـ الخصم الذي يسعى أن يعوّق الذات عن تحقيق الهدف.
ومن هنا فإنّ أي إنشاء لغوي لا يفرز مثل هذه الأدوار، التي تتشابه بين السرديين الثلاثة وتختلف بأسمائها فقط (1)، لا يمكن أن يعدّ سرداً.
*          *          *
ويقوم السرد، كما هو معروف، من أجل صناعة الحكاية على مستوى البنية السطحية بالاعتماد على نوعين من الوظائف: الوظيفة الجذرية (Cardinal Function) التي تشكّل دعامة ضرورية من دعائم البنية العميقة، ويقوّض الاستغناء عنها منطق السببية في الحكاية، وفي مقابل ذلك تقوم بوظيفة طليقة (Free Function) لا يؤدي حذفها إلى خلخلة منطق السببية، على الرغم من قيامها بمهامّ متعددة على صعيد بناء الإطار الزمني والمكاني، وإضاءة بعض جوانب الشخصيات، وغير ذلك.
وإذا كانت تلك الأحداث الثانوية ذات ضرورة بنائية ودلالية كبرى في أنواع السرد المختلفة، فإنها تبدو عبئاً على القصة القصيرة جداً الذي يكتفي عادة (أو يجب أن يفعل ذلك) بالوظائف الجذرية.
من هنا فإن ما نسميه في أنواع السرد الأخرى مادة الحكي الثانوية (Mitadiegetic) [حيث يمكن تقديم سرد مطمور (Embedded Narratve)  في سرد الحكاية الرئيسة] لن تحتاجه القصة القصيرة جداً، ذلك أنّ أي تداخل (Mitalepsis) ناتج عن تمازج مادتين حكائيتين (أو أكثر) أو تقاطعهما، أو توازيهما، سيؤثر سلباً على وحدة النص، وعلى وحدة الأثر التي تسعى القصة القصيرة جداً إلى ترسيخها، وبناءً عليه لا يمكننا الحديث فيها عن عقدة ثانوية (Subplot) تتزامن مع عقدة القصة وتخضع لها، كما هو الشأن في تلك الأنواع، ولا يمكن أن نتحدث عن قصة قصيرة جداً مركبة (Compound Story)، لأنها لا تقبل الربط، بين سردين (أو أكثر) عن طريق التناوب أو التقاطع أو التوازي، وهذا فرق جوهري بين حكايتها التي تتجه سهمياً نحو النهاية، وحكايات أنواع السرد الأخرى التي تستثمر تقنيات مختلفة للوصول إليها.
*          *          *
إن التكثيف الذي يعدّ، حسب جميع المنظرين، ركناً أساسياً من أركان القصة القصيرة هو تكثيف بنيوي، لأنه ناتج من نواتج البنية التي تنأى عن تداخل الحكايات، وهو بهذا يختلف عن التكثيف اللغوي والشعوري الذي نجده في القصة القصيرة، ويفترض انعكاسات تتجسد على مستوى البنية العميقة.
يفترض التكثيف أن تلجأ القصة القصيرة جداً إلى التعميم من خلال بعض الظواهر، ومن أبرز تلك الظواهر الابتعاد عن تسمية الشخصيات التي تقوم بالوظائف الأساسية للحكي، وتقديم الشخصية النموذج التي ترتبط في ذهن القارئ بمجموعة من سمات يختصرها السرد، والاعتماد على البنية اللازمنية للسرد (AchronicStructure)، فإذا انتقلنا إلى الحكاية في ظل التكثيف وجدنا، إضافة إلى ما سبقت الإشارة إليه، أنّ بدايتها تتجنب ما يعرف في السرد بالتهئية (Advance Mention)، وهي تعني أن يزرع السارد بذوراً سردية، لا تظهر أهميتها في حينه، دون أن يلمّح إطلاقاً إلى ما سيحدث، وفي لحظة يختارها بعناية تبرز أهمية تلك البذور التي يجني القارئ دلالتها، إذ يندر أن نجد مثل هذه التهيئة في القصة القصيرة جداً.
وأمّا الصراع (Conflict) الذي تخوضه الشخصيات في القصة القصيرة جداً، فهو غالباً ما يكون ضد قدر أو وسط اجتماعي أو ظرف سياسي سائد، وفي مثل هذه الحالات يفيد القاص من وضع عام، ليس بحاجة إلى تعريف القارئ به، وهذا ما يمنح قصته مزيداً من التكثيف.
وتبدو مهمة القاص في ربط عناصر الحبكة شديدةَ الدقة، فالمساحة الطباعية الصغيرة التي تشغلها القصة القصيرة جداً تكشف العيوب بسرعة، حيث يبدو كلّ ناشز مكشوفاً، وحيث يظهر افتقار الحدث لمنطق السببية (Causality) واضحاً أمام المتلقي، وهذا ما يمكن أن يفقد القصة سمتها الجوهرية، لأنّ السببية كما يرى السرديون هي المحرك الأقوى للسردية.
*          *          *
وعندما نقول إنّ الوحدة النصيّة شرط من شروط القصة القصيرة جداً يواجهنا من يقول: إنها شرط كل عمل أدبي، وهو يقصد الوحدة العضوية التي أفاض كولريدج في شرحها، بينما تشير الوحدة النصية إلى أصغر مساحة حكائية ذات دلالة، وهذا ناتج من نواتج التكثيف.
وعندما تتم الإشارة إلى فعلية الجملة، فالمعنيّ هنا استثمار طاقة الفعل من أجل إنتاج الحدث، وتجنّب كلّ وصف غير سردي، تحفل به أنواع السرد الأخرى؛ لأنّ الوصف (Description) يقوم على عرض الأشياء والكائنات في وجودها المكاني عوضاً عن الزماني، ولا يفيد من ذلك العرض في تقديم الواقعة أو تطوير الحدث، وهذا كثير في الرواية، وممكن في القصة القصيرة، فهو يخلق توتراً في سرعة الحدث، ويمنح القارئ استراحة سردية. غير أن مثل هذه الاستراحة لا يقبلها فن القصة القصيرة جداً. ولا يبدو الحوار في القصة القصيرة جداً بعيداً عن تأثير التكثيف، فهو يختلف من حيث الشكل والوظيفة عنه في القصة القصيرة والرواية. إنّه يتخذ، بصفة عامة، طابع الحوار المفاجئ (AbrubtiveDialogue) الذي لا يكون مصحوباً بلاحقة وصفية، ويسعى إلى التخلص قدر الإمكان من عبء تبادل الأفعال القولية، وصفات المتحدّثين.
*          *          *
نضع أنفسنا أخيراً أمام سؤال لا بد منه: هل يكفي أن يلتزم الكاتب بجميع عناصر القصة القصيرة جداً، لإنتاج قصة ناجحة؟
بالطبع لا؛ لأن العمل الأدبي أكبر بكثير من مجموع مكوّناته، ولأنّ كيمياء الإبداع ليست له وصفة نهائية.
........................
الهوامش:
(1)    هذه الأدوار هي عند سوريو على الترتيب (الأسد، الشمس، الميزان، الأرض، القمر، المريخ)، وهي عند بروب (البطل، الشخص المرغوب فيه، الباعث، المانح، الوغد).
(2)      نرىأنّ أركان القصة القصيرة هي: التكثيف، والوحدة النصيّة، والحكائية، وفعلية الجملة، والمفارقة، وتمكن مراجعة الفصل المسمى (نظرية القصة القصيرة جداً) في كتابنا: د. يوسف حطيني: القصة القصيرة جداً بين النظرية والتطبيق، دار اليازجي، دمشق، 2004.

تعليق عبر الفيس بوك