علي المعشني
تابعت كغيري من المواطنين هاشتاج (وسم) على موقع تويتر بعنوان "عمانيون بلا وظايف" -هكذا كتب- ودفعتني بعض تفاصيله وتوقيته إلى التعليق عليه في هذا المقال، وهو في البداية والنهاية رأي شخصي لا أكلف به أحد، فرأيي لا يلزم أحدا، ولكن يلزمة البرهان إن وجد وكما يقال.
فالوظيفة -وكما هو معلوم- حق طبيعي لكل إنسان قادر على العمل والإنتاج، وتنطبق عليه شروط الوظيفة وقوانين قوة العمل، بل ومن واجبات المواطنة تجاه الوطن، والعُمانيون كغيرهم من البشر يحق لهم المناشدة والمطالبة بحقهم في العمل لما يعنيه العمل للإنسان من مشاعر إنتاج وإعمار ومشاركة وتحقيق للذات.
الحقيقة التي لا يمكننا القفز عليها هي أننا في السلطنة نعاني من إشكالية حقيقية متجددة في قطاع التوظيف بمجمله، ومرد ذلك غياب التخطيط المحكم لمدخلات التعليم ومخرجاته، وغياب فلسفة العمل ومنظومتها من تعريف قوة العمل وتوظيفها وتعريف القيمة المضافة للعمل ومفرداتها وملحقاتها من باحثين عن عمل وكيفية التعامل معهم، ونظام التقاعد، وتعريف الفقر وذوي الدخل المحدود والأسر المتعففة وأسر الضمان الاجتماعي؛ فهذه المفردات جميعها منظومة متكاملة لا يمكن تجزئتها فهي كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعت له سائر الأعضاء حتمًا.
نحن اليوم في سلطنتنا الحبيبة ما زلنا نعمل تحت سقف دولة الرعاية الاجتماعية، هذه الدولة التي أصبحت نتيجة للبعض الإخفاق في التخطيط وقلة الحيلة دولة ضمان اجتماعي بامتياز؛ حيث أتت بنود المصروفات المتكررة (الرواتب والعلاوات) في مؤسسات القطاع العام على ما يفوق 6 مليارات ريال عماني من الموارد المالية للدولة، وهو رقم مهول في دولة فتية ناشئة تعاني من ضعف المداخيل وتنهج الاقتصاد الريعي.
مشكلتنا في السلطنة أننا لم نستوعب بعد ضرورة تحول الدولة من الاستهلاك إلى الإنتاجية عبر استحداث منظومة تشريعية وإدارية تسمح باستغلال الممتلكات العامة من أراض ومنشآت في تحقيق دخول مالية للمؤسسات الحكومية عبر الاستثمار المباشر أو غير المباشر، للتقليل من اتكاء تلك المؤسسات على موارد الدولة، وتدوير تلك العائدات مهما بلغت في تطوير القطاعات رغم جهود الصندوق السيادي ومشروع شراكة ما بين القطاعين العام والخاص، إلا أنها لا تزال خطوات خجولة وتحفها الكثير من البيروقراطية ورواسب الماضي من ثقافة "محرمات" الأملاك العامة وخلافه.
أدوات التمويل القائمة حاليًا -كبنك التنمية وبنك الإسكان وصندوق الرفد وصندوق تنمية مشروعات الشباب- لا تزال تراوح مكانها، ولم تنجح في تسويق نفسها للمواطنين بطرق جاذبة لغياب فلسفتها في العمل والإنشاء وقلة تجربتها في التناغم مع الشأن وقراءة مزاج الدولة والمتغيرات المتسارعة من حولنا، ولم تستوعب بعد دورها الاجتماعي ومسؤوليتها في رفد جهود الحكومة في التوظيف، واستيعاب أعداد من الباحثين عن العمل أو الراغبين في خوض تجربة العمل الحر بصور آمنة ومريحة؛ حيث إن عوامل الطرد في هذه الادوات لا تزال أكبر بكثير من عوامل الجذب فيها ولهذا حديث يطول.
مظلة التأمينات الاجتماعية لا تزال تقليدية في منهاجها وبعيدة عن روح الابتكار ومواكبة التطور الاجتماعي والوظيفي في السلطنة، وكان حريًّا بها إقرار أذرع تأمينية أكثر مرونة وحيوية وعصرنة لاستيعاب ظروف الباحثين عن العمل عبر إيجاد آلية ضمان توفر دخل معقول لهم "تأمين بطالة" يخفف من معاناتهم ويجبر ضررهم النفسي في الترقب الوظيفي ويقلل من منسوب السخط لديهم.
من غير المقبول اليوم تبرير وجود باحثين عن عمل في السلطنة بوجود بطالة في العالم، فنحن في السلطنة دأبنا على المقارنات غير الموضوعية ولا المنطقية في كثير من القضايا والأحيان؛ حيث إن أغلب البلاد في العالم تأتي البطالة بها نتيجة الأعداد الكبيرة للمخرجات التعليمية والتي تفوق طاقة استيعاب سوق العمل وسياسات التوظيف، كما أن سقف التعليم مفتوح ومتاح للجميع وبمجانية بغض النظر عن سياسات التوظيف وبمعزل عنها، وبعضها مؤمن عليهم (تأمين بطالة) لحين وجود الوظيفة المناسبة، كما أن بعض البلاد تعرف البطالة بعدم وجود شاغر وظيفي بعينه، حيث لا يمكن لأي خريج شغل أي وظيفة لا تتعلق بتخصصه.
من المعيب في تقديري أن نكرر أخطاء تعيينات عام 2011 الارتجالية، والتي كدست عشرات الآلاف من الموظفين في قطاعات مختلفة دون دراسة أو حاجات فعلية لتلك القطاعات، ومن المعيب والمخل كذلك أن نبحث عن تقاعد اختياري أو إجباري بمعزل عن قوة العمل والآثار الجانبية للتقاعد كإرباك الإنفاق المالي للمواطن والإخلال بدخله وتعريضه لأزمات مالية مجانية وإدخاله قسرًا في شرائح وفئات اجتماعية جديدة؛ كالفقر أو مزاحمة الباحثين عن العمل في القطاع الخاص أو ممارسة الوظائف الهامشية كالنقل أو بيع الغاز أو تعليم السواقة...وما في حكمها، دون دراسات مستفيضة وشاملة لتقنين تلك الوظائف وحركة وبدائل المتقاعدين لجبر ضررهم المادي والنفسي وشغلهم في المفيد ليكون التقاعد مكافأة وليس عقابا.
سلطنتنا الحبيبة دولة عصرية فتية وقليلة السكان وهي بحاجة ماسة لكل خبرة وطنية قادرة على العطاء المتقاعد منها ومنهم على رأس العمل، ومن المبكر عليها أن توفر التخطيط الناجح أن تعاني من البطالة أو التكدس الوظيفي، وعلينا أن نعمل بجدية تامة لايجاد منظومة متكاملة من التشريعات والاجراءآت الكفيلة بالربط السلس ما بين مخرجات التعليم والتأمينات الاجتماعية وتوظيف قوة العمل، واستغلال الخبرات وتحفيز العمل الحر بطرق جاذبة وآمنة مع آليات الارتقاء بأسر الضمان وحفها بالرعاية الكريمة.
لا يعنيني كثيرًا رقم أعداد الباحثين عن العمل -سواء كان مصدره مجلس الشورى أو سجلات القوى العاملة، فكلاهما مقلق- بقدر ما يهمني اليقين بوجود باحثين عن عمل وهم بالالآف بلاشك ومن حقهم على وطنهم العمل، وبقدر يقيني بأهمية مراجعة منظومة العمل برمتها وبجميع مفرداتها حتى لا نكرر الفشل ونجرب المجرب على الدوام.
توقيت الهاشتاج في تقديري وتداعياته ووسائله لا يخلو من نوايا غير بريئة، والهدف الشريف -كما يقال- يجب أن يتسلح بالنوايا والوسائل الشريفة؛ فنحن بالكاد تعافينا من آثار الأزمة الاقتصادية وتداعياتها ومن تغطية العجوزات في الموازنة العامة، وتلك أخطاء لا نبرئ ساحة الحكومة منها، ولكن الإثقال بالمطالب وعدم واقعيتها تنم عن غياب الوعي والمسؤولية والتعدي على أمن الوطن واستقراره، وهذا يدعونا لمراجعة منظومة التعليم والتخصصات برمتها، والتي أنتجت هكذا وعي وهكذا عنوان للمطالب بركاكته.. والله نسأل أن يحفظ بلادنا وسلطاننا بماحفظ به ذكره المنزل العظيم من كل شر ومكروه.
--------------------------
قبل اللقاء: من المشروع أن تعارض الحكومة وتنتقدها نقدًا بناءً، ومن المعيب أن تخلط بين معارضة الحكومة ومعارضة الوطن. وبالشكر تدوم النعم.
Ali95312606@gmail.com