إعلام المبادرات واستثمار الثقافة

عبد الله العجمي

عندما أراد الله سبحانه وتعالى أن يُعرّف نبيه الكريم - صلى الله عليه وآله وسلم- في سياق تقديمه لنا وتعريفنا به قال واصفاً إياه في سورة المائدة الآية 15: "قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين" فوصفه بأنّه "النور"، لذا فقد كانت أسمى مهامه -صلوات ربي وسلامه عليه وآله- هي إخراج النَّاس من الظلمات إلى النور، ثم جعل الله معيار قيمة الإنسان هي بمقدار ما يمتلكه من علم: "قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون" (الزمر/9)، هذا وقد علّم المولى نبيّه دعاءً جميلاً استمر هذا الدعاء وبقي ميراثاً لهذه الأمة يدعون به إلى يومنا هذا وهو: "وقل ربِّ زدني علماً" (طه/114).. فاستطاع النبي الأكرم أن يرتفع بتلك الأمة الجاهلة ليصل بها في سنين قليلة إلى قمّة الحضارة وأوج التقدّم وأعلى مراتب العِلم.

وقد ورد في كُتب السير أنَّ أحد الأئمة لما دنا أجله أوصى ابنه قائلاً: "أوصيك بأصحابي خيراً، أن تُعلّمهم وترفع مستواهم" فأجابه ابنه: "جعلت فداك، والله لأَدَعَنّهُم والرجل منهم يكون في المِصْر فلا يَسألُ أحداً -أي يكون أعلمهم ولا يحتاج لسؤال غيره-" وأخذ هذا الابن على عاتقه -بعد وفاة أبيه- هذه المسؤولية في زمن كان الوضع السياسي العام آنذاك مهيَّئاً لهذه المهمّة النبيلة، فقام بتأسيس أوَّل جامعة إسلامية -باصطلاحنا المعاصر- في عهد الإسلام حيث تخرّج منها قرابة الأربعة آلاف كما يذكر الشيخ محمد أبو زهرة في كتابه الذي تناول هذه الشخصية بإسهاب، فكان طوال تلك الفترة يُجيب عن أسئلتهم إن سألوه ويبتدرهم بالسؤال إن سكتوا عنه، حتى تخرج في تلك الجامعة من يُشار إليهم بالبنان في تأسيس شتى العلوم، إذ لم تقتصر تلك الجامعة على العلوم الفقهية والعقائدية وعلم الكلام وغيره، بل كانت أشمل من ذلك بكثير، ومن بين من تتلمذ فيها عالم الكيمياء جابر بن حيّان كما ورد في وفيات الأعيان لابن خلكان، وكذلك الإمام أبي حنيفة النعمان والإمام مالك بن أنس ويحيى بن سعيد وابن عيينة والثوري وغيرهم.. هل علمتم من هو هذا الأستاذ؟ إنه الإمام جعفر بن محمد الصادق.. إنه الاستثمار في الثقافة وتنوير العقول حسب توصيفاتنا المعاصرة.

لربما يغيب عن عقل الكثير في حاضرنا المعاصر ممن عزَف عن هكذا استثمار، أن هذا الاستثمار هو في الحقيقة استثمار في الانسان، وأنه إذا ما أردنا أن نبني مواطناً قادراً على اختراق كل المجالات بكل جرأة وثبات فعلينا أن نجعل الثقافة هي أولى عربات القطار الذي يقطُر خلفه كل مقطورات التنمية المجتمعية والإنسانية والاقتصادية والعلمية، وتسنده جسور الانفتاح والوعي بالثقافات الأخرى لتحميه من الانحدار في أودية الجهل كي يكون مساره واضحاً لا إعوجاج فيه.

ولا ينبغي علينا أن نقرن ونقيس الاستثمار في الثقافة بالربح دائماً، بل نقيسه بما يعكسه هذا الاستثمار على كل جوانب الحياة، ولن ينهض أي مجتمع إلا بعد أن يتشبّع عقل كلّ فرد منه بتلك الثقافة، فارتفاع مستواها سيُبدد حقولاً من الجهل بلا شك، بل وربما يكون هو البديل لخروجنا من هذه الأزمة الاقتصادية الخانقة التي يمر بها العالم اليوم، ألا يعي الكثير منِّا أن هذا الاستثمار هو أفضل ما يُمكن أن تتهيّأ به الشعوب استعدادًا لنضوب حقول النفط في دولنا، ولعل بعض المؤسسات الخاصة التي كانت سبّاقة في هذا الجانب أخذت هذا الأمر على عاتقها وحملت بيرق المُبادرة فكان لها السبق في الساحة العُمانية تحديداً، إحداها هي بيت الزبير الذي انطلق عام 1998م، فمن متحف بصبغة خشبية عريقة إلى أن وصل به الحال أن يكون من المنصات الثقافية البارزة في السلطنة.. الزاخرة بالكثير من المناشط والفعاليات الثقافية بكافة جوانبها وحافلة بالبرامج الثقافية الهادفة على مدار العام.. وهناك أيضاً مؤسسة الرُّؤيا للصحافة والنشر التي استثمرت في الثقافة بتبنيها إعلام المبادرات لتصل إلى مرحلة تتربّع فيها على عرشه طوال السنوات الماضية، فجائزة الرؤية لمبادرات الشباب وما يصاحبها من جولات تعريفية تثقيفية تحث الكل على المشاركة والإبداع في أيٍّ من مجالات هذه الجائزة سواءً العلمية أو الثقافية أو الأدبية أو الإعلامية، ولعل أبرز دليل على نجاحها هو استمرار تألقها للسنة الخامسة على التوالي..

إن الاستثمار في الثقافة هو مُساهمة مهمة وخطة فاعلة للارتقاء باقتصادنا المحلي، ولنا في اليابان وسنغافورة وماليزيا أقرب مثال، فباستثمارهم لعقول مواطنيهم استطاعوا أن يُحققوا ثروة بديلة تغنيهم عن الحاجة للغير أو الاعتماد على موارد أخرى كالنفط يعلم الجميع أنها ستنضب يوماً ما.

فهلّا كانت لشركات القطاع الخاص وقفة استدراك تتبعها خطوات متتالية وفاعلة للانخراط في هذا الاستثمار؟