"راقي بأخلاقي".. معاً لتحصين قيم المواطنة

عمَّار الغزالي

قد نتَّفق أو نختلف نسبيًّا -كلٌّ حسب قناعاته- على أنَّ ما نعيشه هذه الأيام يُمكن احتسابه بالمقاييس الفلكيَّة ضمن "السنوات الخدَّاعات" التي أخبر عنها رسولنا الكريم عليه وعلى آله أفضل الصلاة والتسليم، أو على أٌقل تقدير مرحلة ما قبل تشكُّل هِلالِهَا في سَمَاء المستقبل القريب؛ تأويلًا واقعيًّا يُستشف من حديثه صلى الله عليه وسلم: "سيأتي على الناس سنوات خدَّاعات، يُصدَّق فيها الكاذب، ويُكذَّب فيها الصادق، ويُؤتمن فيها الخائن، ويُخوَّن فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة"، وكدلالة بائنة على انقلابٍ في المعايير، ما كنا لندري كيف يكون هذا، حتى أظلَّتنا الخطوب، وطالعتنا صور مختلفة من الانحرافات -أخلاقيًّا وقيميًّا- طرأت على التصوُّرات وامتزجت بالمعاملات، واختلالات في موازين الخير والشر، والصواب والخطأ، ومقاييس الرُّقي وآداب التعامل: في البيوت، والأحياء، والشوارع، وأماكن العمل، وعلى المقاهي ومراكز التسوُّق وحتى في العالم الافتراضي وقنوات التواصل الاجتماعي، للأسف الشديد، الملاحَظ تراجع في الأخلاقيات بشكل عام، وفي مَكارِمها ومحاسنها بشكل أوضح؛ فغابتْ العديد من الملامح التي كانت ترسم في المخيلة صُوْرَة -لا أقول ملائكية أو منزَّهة- للإنسان العُماني، صورة تجسِّد الكثير ممَّا نُحِت على جِدارية التاريخ من قيم وأخلاقيات ظلَّت لصيقة به، وظل هو شديد الصلة بها: صدق، وأمانة، وإتقان عمل، وانضباط مواعيد، وتجنب الغش، وإيفاء الكيل، وكرم ضيافة، وحرص على الوفاء بالواجبات، وبشاشة الوجه.. والقائمة تطول.

ولا أقصد هنا تبنِّي ما ذهب إليه الفيلسوف الفرنسي إميل دوركايم، من أنَّ الأخلاق ظاهرة اجتماعية وأنَّ "الفرد دُمية يُحرِّك خيوطها المجتمع"، بل على العكس تمامًا، فأنا هنا أرتكز على ذاكرة تاريخ كانت وعاءً لشِيَم وقيم الأجداد الأوائل، ومرجعية دينية إسلامية أصيلة فحديث "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق" يعدُ منهاجاً قويماً يحثُّ على التحلي بالحميد من الأخلاقيات. ولن أستطرد في ذكر نماذج معلومة للجميع من مكارم الأخلاق التي أبرزتها آي الذكر الحكيم والسنة النبوية المطهَّرة، ولا ما رُوي عن الصحابة وآل البيت الكرام والتابعين، وإنما أتلمَّس بُعداً آخر للقضية؛ يجعل الإثابة عنها تصل حدَّ قوله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ من أحبكم إليَّ وأقربكم مني مجلسًا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقًا"، وحديث "إنَّ المؤمن ليدرك بحُسن خلقه درجة الصائم القائم"؛ مما يُفضي إلى ضرورة صيرورة الأخلاق من مرحلة الاكتساب، إلى مرحلة التعلُّم، ومنهاجُ الحياة الذي يستوجب أن نسير على دربه، فترقى بنا، ونرقى بمُجتمعنا.

وهي مناسبة لتسجيل إشادةٍ مُستحقَّة لواحدة من الحملات الوطنية الأوسع انتشارًا والأكثر أثرًا: حملة "راقي بأخلاقي"، التي اختتمت سلسلة مُحاضراتها على مجمع السلطان قابوس الشبابي للثقافة والترفيه بصلالة، بمشاركة مثقفين ومفكرين وعلماء قدَّموا جُرعات تثقيفية وتوعوية هادفة، تُسهم في بناء الشخصية وتوعية المجتمع، عبر محاور استهدفت كافة المراحل العمرية، وتشخيص معمَّق لما نعاينه من مُتغيرات تحيط بنا: الأسرة، والطفل، ومرحلة المراهقة، والشباب والفتيات، وذوو الإعاقة، والإعلام، والتعليم، والإبداع بالأخلاق.. كلها موضوعات كانت على مائدة نقاش قامات يُشار إليها بالبنان؛ استهدفوا ترسيخ المبادئ والقيم والأسس الأخلاقية التي دعا إليها ديننا الحنيف، وتوعية الشباب بأهمية التمسك بتعاليم دينهم والانتماء لوطنهم ونبذ الظواهر الدخيلة.

مثل هذه الحملات، تؤكِّد مقولة أنَّ المجتمعات لديها القدرة على توليد القيم واختراع التقاليد، فما بالنا بمخزون أخلاقي مُتراكم نؤمِن به نحن العُمانيين توارثناه كابرًا عن كابر، ألا يجدُر بكلِّ من يضطلع بمسؤولية تجاهه أن ينفض عنه غبار الزمن، ويفتح صفحاته لنستقي من معينها ما يسدُّ فجوات هائلة نراها ونلمسها في اتجاهات متباينة من حولنا، ويجسِّر المسافات بين رُسوخ أخلاقي متماهِي مع الشخصية، ومحاولات تحرُّر من دشداشة أو عباءة منظومة القيم والأخلاق، وانقياد أعمى وراء كلِّ ما هو برَّاق وإن كان زائفًا، خصوصا في توقيت زمني مليء بالمحن والإحن، فُقد معها الدليل إلى قُمرة القيادة، لإدارة تِرْس الإنسانية للعودة مجددًا إلى مرافئ الانضباط والاتزان.

إنَّ هذا الطرح لا يعني أنَّ المشهد في مُجتمعنا قاتمٌ، بل إنَّ دعوة رسولنا الكريم لأهل عُمان تجعل الخير يسري فيها وبين أهلها مسرى الدم؛ فقط نحتاج إلى التذكير دوماً بهذه القيم، وأن يكون هناك طَرْقٌ متواصلٌ ومستفيضٌ لتعزيز مفهوم الأخلاق في المجتمع بشكل أكثر واقعية، وتضافر جهود الجميع من أجله؛ ابتداءً من الأسرة واضطلاعها بدورها الرائد في تربية الأجيال، والمدارس بتوجيه الطلاب نحو الاتجاهات السلوكيَّة الإيجابيَّة والأخلاق الحسنة والتدريب على ممارستها، والمساجد، ووسائل الإعلام، كما نحتاج مزيدًا من التنسيق بين الجهات المعنية للعناية بشبابنا فكريًّا وثقافيًّا وسلوكيًّا، والاستفادة من نماذجنا التاريخية المجسِّدة لذلك، واستخدام وسائل التواصل الحديثة لتطوير وسائل وأساليب التربية القيمية والأخلاقية والروحية، بما يناسب احتياجات النشء في كلِّ عصر، وتفعيل مواثيق الشرف المهني في كافة المؤسسات والقطاعات.. ما أعنيه أنَّ المجتمع كله مسؤول عن توفير تحصين (تطعيم) يقي بهِ نفسه، وهي حملة تساوي في أهميتها حملة وزارة الصحة مشكورةً للتحصين ضد مرض الحصبة، فعافية المدارك والقيم مهمة كعافية الأبدان من العلل، ولابد من ضرورة البناء على ما تحقَّق لحملة "راقي بأخلاقي" لتحقيق مزيد من النجاحات، تستهدف التوغُّل إلى عُمق المجتمع وليس أطرافه، حتى نضمن تحقيق تنمية مجتمعية حقيقية تحقِّق غايات التنمية وتُسعِد بني الإنسان.

كُلُّ الشكر والتقدير لجمعية المرأة العمانية بصلالة، وللقائمين عليها، والشكر موصول لكلِّ من أسهم في إنجاح هذه الحملة المجتمعية المباركة ذات الأثر الوطني العظيم، نسأل الله تعالى لهم التوفيق والسداد وإلى المزيد من العطاء.