رحلة مع نزار قبَّاني في حواري دمشق (2/2)

رشا فاضل – عراقيّة تقيم في بيروت - لبنان


(5)
(ولا أنسى الشاعر الصديق الباهر عمر الجفال الذي لم يدخر وسعا في مساعدتي والبحث في صفحات الانترنت عن كل ما يخص هذا المشوار الممتد من العراق حتى قلب العاصمة دمشق حتى قلبك! سرنا باتجاه بيتك الذي قال لي إنه لا يبعد عنا سوى أمتار قليلة؛ صاح القلب بدهشته التي لم يسمعها أحد سواك : سأطبع على كل حجر تذكار محبتي، وأهمس لكل زهرة ياسمين في قارورة العطر التي تدعى بيتكم إني جئتك من وطن بلقيس الراوي أحمل لك وردة وأغنية لم يبتلعها النواح بعد ..ذلك الطوفان الذي لم تشهده وهو يقتلعنا من الجذور ويزرعنا على بوابات العالم لاجئين لبقايا أرض بعد أن سرقوا منا البلاد  وصادرونا بلا هويَّات، كان السيد حسام يسير معي ويخبرني كيف إنه حاول اقناع صاحب المنزل بأن أدخل والتقط بعض الصور لكنه رفض وبشده !كان منزلك وحديقة عطرك قد بيع لإحدى العائلات الدمشقية العريقة وتدعى عائلة آل نظام بدلا من أن يتحول بيتك إلى متحف أو مزار للعشاق أو ضريح على جسد قصيدة تشاركني حتى هذه اللحظة اليتم برحيلك . لا تحزن، فروحي لن يوقفها جدار، كقدمي التي لم تستوقفها السيطرات الحدودية وشوارع الانتظار، يكفيني أن أقف عند باب بيتك، وألمس قرميده لتتسلل روحي إلى حديقتكم التي ظلت تطاردك بالحنين حتى وأنت تتوسد جنان الأرض، فجأة توقف السيد حسام أمام أحد المنازل وقال لي:
 
 ( في الزقاق الضيق الذي تجمّع فيه الصبية للّعب كان بيتك يطل بصمته وقرميده القديم وبابه الخشبي الأبيض الصغير بأصابع مرتبكة تلمست جدرانه بياض بابه الذي حملني إليك ورأيتك تخرج منه طفلا بشعر أشقر وشابّا ببشرة دمشقية وبياض سادر ورأيتك شيخا يمنح طريقته في العشق  وثوريا يقسم رغيف الحرية بين الكادحين، في رهبة حضورك وقفت وأنا أستشعرك عند كل حجر، كل ورقة سقطت من حديقتكم التي لم يمنحني ساكن البيت فرصة  للقائها؛ طرقت الباب بلهفة أطفأها الانتظار، لم يفتح الباب أحد ..وكان يكفيني أن أقف بباب بيتك، قارورة العطر التي كتبتك قصيدة في حديقتها ..وكان عزائي ان منزلك لم يكن محطتي الأخيرة في رحلتي إليك ..كان علي أن أواصل سيري إليك في مملكة البياض والصمت الذي تشظى في حضرة القصائد ..أكد السيد حسام أن كل محاولاته مع صاحب الدار قد أخفقت .. وعزّاني بأن المقبرة التي احتضنت جسدك وأعادتك إلى رحمها ليست بعيدة كثيرا عنا ..كان علي أن أكمل رحلتي إليك تلك المواجهة التي كنت أخشاها أمام جسدك المزروع شجرة دمشقية في قلب الأرض ونحو مقبرة (باب الصغير) سارت بي خطاي مودعة حسام جبارة الذي قام بواجب الضيافة والمحبة إكراما  لحضورك الموغل في ذاكرة التأريخ، ومضيت نحوك من جديد بلهفة وصلت ذروتها وأنا أسابق الخطى قبل أن يدركني المغيب.)
(6)
 [إلى مملكة العاشق الدمشقي.. إلى مقبرة (باب الصغير)؛  أكرّرُ للمرّة الألف أني أحبك) كيف تريدينني أن أفسِّر ما لا يفسر؟ وكيف تريدينني أن أقيس مساحة حزني؟ وحزني كالطفل يزداد في كلِّ يوم جمالاً ويكبر..دعيني أقول بكل اللغات التي تعرفين ولا تعرفين..أحبُّك أنتِ..دعيني أفتشُ عن مفرداتٍ..تكون بحجم حنيني إليك وعن كلماتٍ تغطي مساحة نهديكِ بالماء، والعشب، والياسمين دعيني أفكر عنك وأشتاق عنكِ وأبكي، وأضحك عنكِ، وألغي المسافة بين الخيال وبين اليقين دعيني أنادي عليكِ، بكلِّ حروف النداءِ لعلي إذا ما تغرغرت باسمكِ، من شفتي تولدين دعيني أؤسّسُ دول عشق ٍ تكونين أنتِ المليكة فيها وأصبحُ فيها أنا أعظم العاشقين، دعيني أقود انقلاباً..يوطّدُ سلطة عينيك بين الشعوب، دعيني، أغيّرُ بالحبِّ وجه الحضارةِ، أنتِ الحضارةُ، أنتِ التراث الذي يتشكلُ في باطن الأرض منذ ألوف السنين].

(7)
(واستدركت في غمرة ركضي إليك أني لم أجلب لك وردا، ولا تذكارا !؛ فبدأت أبحث في المحال المترامية على جانبي الطريق عمن يبيع الزهور، وللمرة الأولى في رحلتي إليك لم يحالفني الحظ في إيجاد محل يبيعني زهرة واحدة أندي بها روحك الخضراء، لم يكن ثمة ورد طبيعي ولا حتى صناعي، فذهبت إليك بيدين عاريتين من الورد، بأمل أن أجد من يبيعه في مملكتك؛ أيها الدمشقي الذي استدرجتني ثورته وقصائده إلى المقبرة).

(8)
(عند لافتة حملت عنوان (مقبرة باب الصغير) وقفت كان المدخل إليك مشرعا بوجهي؛ بوابة المقبرة تفتح ذراعيها في كل وقت؛  فهو يفتح لنا ذراعيه دوما ولا يرد أحدا، وفي المقبرة سألت أحد الفلاحين عن قبرك؛ فقال لي إنك في المقبرة الأخرى في الجانب الآخر وعرض علي أن يوصلني إليك لأني سأتوه في زحمة القبور قبل أن أصل إليك وكان المساء قد أفرد جناحي).

(9)
(وكانت مكتظة بالزوار والسواح فقد كان هنالك مرقد السيدة زينب الذي اجتذب العشرات من السياح العرب والأجانب؛ طلبت من فادي أن يساعدني في إيجاد ولو زهرة واحدة أضعها قبلة محبة على قبرك ..لكنه للأسف لم يفلح في إيجاد زهرة أو بقاياها بين القبور).

(10)
(واصلنا المسير بين القبور التي بدت حولي كحمائم بيضاء تغطي سطح الأرض الداكن بسكينتها وهي ترقب خطى العابرين؛ أشار لي فادي إن قبرك مسوّر ضمن قطعة أرض باسم      (آل توفيق القباني) وإنه لا يمكنه أن يجلب لي مفاتيح المدفن إلا بعد الحصول على موافقات و، و، و ،،).
(11)
(كنت اسمع صوتك الذي صاح احتجاجا بوجه الأسوار التي وضعوها لك؛ أنت الذي قضيت حياتك تنادي بالحرية والشمس؛ عند أسوار المدفن وقفت، حط القلب فوق بياض قبرك ورحت أنشد ترانيم الفجيعة فوقه كالأمهات المفجوعات؛ لكني لم أكن مفجوعة برحيلك)

(12)
بل كنت أقول لك معاندة ذلك الوجع الذي  ينغرس في قلبي وأنا أهمس لك بنشيجي:  نم يا نزا ر في حضن بلقيس الرواي من جديد ؛ ارجع إلى حضن أمك التي ترقد بجانبك).

(13)
(أسدل ستائر الفجيعة على المشهد الأخير وعانق ابنك توفيق الذي زرع في حدائق عمرك أولى الغصات والنكبات، أغلق نوافذ إنصاتك عن عالمنا العربي الذي أوحل في الهزيمة وهو يدون في تأريخه الهزائم نكسة تلو أخرى ، وها هي هدباء تلتحق بك أخيرا لتكمل لك حكاية الهزائم، فارقد يا نزار في حضرة أحبتك، وأغمض عينيك عن شاشة وجودنا، كانت روحي تهفو لعناقك لغمرك بزهور فشلت في إحضارها لك، لكن معجزة لقاءك  كانت ترمي بظلالها علي وأنا أرى طفلين صغيرين يتمشيان بالقرب مني وهما يحملان زهورا  طبيعية بيضاء وحمراء ! طار القلب من مكانه وأنا الحق بهما لأغمر قبرك بالزهور كانت أصابعي تختار لك أجمل الزهور وأكثرها أناقة).

(14)
(كان الطفلين يشاركاني لهفتي وسعادتي وهما يساعداني في اختيار الزهور، وحملت لك الزهور).
(15)
(معجزة وجودك وروحك التي استشعرتها في كل التفاصيل التي تحيط بي لم تقف الأسوار بيننا كما لم تخذلني المسافات، تسللت يدي من بين الأسوار لتهذب إليك الورود التي تحب سألت فادي إن كان ثمة من يزورك، فقال إن هنالك من سبقني إليك قبل فترة من  أقرباء بلقيس الراوي حيث جاءوك من العراق أيضا، ابتهج القلب وأنا أراك محفوفا بمحبتنا العراقية وضعت الزهور لك وغبت في بكاء صامت لم يشهده أحد سواك).
(على شاهدة قبرك علّقت آخر الدمعات وغبت في مناظرة صامتة رددت فيها كلماتك التي حفظتها عن ظهر قلب؛ أنا التي تزعم دوما أن ذاكرتها مثقوبة؛ كان المغيب يرمي بستائره فوق عناقنا، ذلك العناق الذي توقف فيه الزمن عند ضحكة عينيك تلك الضحكة التي كانت تنتظرني في مقبرة باب الصغير).

تعليق عبر الفيس بوك