حقائب مُكدَّسة (2-2)

علي كفيتان

في ظلِّ هذه التوجهات الصادمة، لا مجال إلا للأفكار التقشفية التي وضعتها، عضو آخر لفت انتباهه كثرة الحقائب المرصوصة في الخزانة، واقترح التخلُّص من الزائد منها لصالح الموازنة الأسرية المتعثرة، وكانت بالفعل فكرة إيجابية بامتياز؛ فالزحام الحقائبي الشديد بات يشكل قلقا لنا لمنافستها المساحة المخصصة للملابس في غرفة النوم، بل ووصول بعضها إلى أدراج المطبخ، والحقائب هذه لها قصصا عجيبة.

ففي بداية عمري، لم أمتلك لا حقيبة ولا خزانة، بل كان وزاري القديم أو ذاك المصر البالي هو الذي يقوم بكل هذه المهمات، وفي مرحلة لاحقة ابتسمتْ الأقدار وذهبنا للجامعة، فكان لِزَاما البحث عن حقيبة تليق بهذه المناسبة، زُرت سوق الحصن واشتريت حقيبة ذات لون زاهٍ ولها مقبضان ينفتحان بقوة، ولهما صوت قوي، ظلت رفيقة الدرب الطويل، والشاهد على أهم النجاحات في حياتي، ضمَّت كلَّ حاجاتي، ومن مَيزاتها أنَّها قابلة للغسيل، خاصةً بعد أن يتعلق بها آثار الغبار المتراكم واللون الأصفر النابع من موقد النار في غرفة المعيشة الريفية، لقد ورثتها أجيال بعدي، وظل اسمي الملصق عليها بالحروف الإنجليزية المتباعدة يحكي قصة كفاحي، لم أسترد الحقيبة الأصلية مثلها مثل كأس العالم؛ كونها مرت على ثلاثة خلفاء من بعدي، ولكني احتفظت بنسخة مشابهة تحاكي تاريخها العريق.

بَيْنَما ظلت هذه الأخيرة فاغرة بابها من جانب، والجانب الآخر لا ينفتح إلا بالركل المتكرِّر الذي يجيده جميع أعضاء الأسرة، لمعرفتهم المتأصلة بها. الأهمُّ في الأمر أنَّ الظروف تغيَّرت لاحقاً، وبعد أنْ كانت تلك الحقيبة هي ملاذ كلِّ شيء كالجوازات، وشهادات الميلاد، وملكيات الأراضي، والشهادات الدراسية، وكروت المستشفيات، وكتيب اليوميات الجامعية، والكثير من الأدوات. باتت اليوم خاوية إلا من بضع وريقات لا تغني ولا تسمن، ولم يعد أحد يتوجه إليها في ظل وفرة الحقائب المتكدسة في جميع أنحاء البيت.

حيث إنَّه ومع تحسُّن الظروف المادية أصبحنا نملك تعددية حقائبية غير مسبوقة؛ فوزَّعنا المهام بينها، بغية شغلها جميعاً. نذكر على سبيل المثال لا الحصر: واحدة للأحوال المدنية، والأخرى للتربية والتعليم، والثالثة للتعليم العالي، وأخرى للسفر والسياحة، وتاليتها للتراخيص البلدية، وواحدة للبيئة، والصحافة والإعلام، والتي تليها للتراث والثقافة...إلخ، وهكذا أصبح لدينا مجلس حقائبي متنوع تعدَّى العشرين حقيبة. درسنا مقترح صاحبنا بالدمج وعرض الفائض في المزاد لدعم الموازنة التقشفية وكان بالفعل مقترحا وجيهاً، فمعظم الحقائب وجدتها خاوية إلا من العناوين التي على واجهاتها منذ عهد بعيد، بهذا التعديل خلصنا إلى نصف العدد، وعمرنا جميع الحقائب المتبقية بالأوراق والمستندات، وكانت فرصة للتخلص من الأوراق غير الضرورية، فنحن جيل الاحتفاظ بالأوراق بامتياز مخافة التفريط بالحقوق. هذا العضو الأسري صاحب هذا المقترح، وفَّر علينا الكثير من الوقت والمال، ونظم لنا الأرشيف الحقائبي مجدداً، واستحق منا الإشادة أمام جميع أفراد العائلة، وأصبح من المقربين الأوفياء الذين نثق بنصحهم عكس صاحبنا الأول. ولم يتوقف عن أفكاره النيِّرة، فقام بحفظ جميع الوثائق الموجودة في الحقائب المتبقية إلكترونيًّا عبر الماسح الضوئي، وعرض عليَّ التخلص مما تبقى منها، فقد أصبحت غير ذات جدوى، وبأنه -وعبر النظام الإلكتروني- يستطيع إحضار أيِّ معلومة بكبسة زر واحدة، كانت فكرة مغرية، خاصةً مع أسلوبه المميز في العرض، فوافقت على أن نحتفظ بالحقائب الأساسية فقط؛ كوني ما زلت متوجساً من هذه الحوسبة، مخافة فقدان كل القيم التي دافعت عنها طوال نصف قرن، واشترطت عليه كذلك الإبقاء على الحقيبة القديمة، رغم عدم فاعليتها، كونها أصبحت جزءًا من التراث غير المادي لهذه الأسرة.

وبهذا؛ أصبحتُ أنا وصاحبنا هذا نُدِير كل شؤون الحياة اليومية إلكترونيًّا؛ فتم ربط جميع الخدمات التي أقدمها لأسرتي بنظام موحَّد يُفصل مباشرةً عندما يتخطَّى أي فرد سقف الاستهلاك المخصص له. وبالرغم من ثقتي العمياء بهذا المجدِّد الإلكتروني الذي لا يرحم، ونجاحاته الخارقة، وتوفير الكثير من المال، إلا أنَّني فقدتُ أهمَّ شيء عملت من أجله طوال حياتي.. شيئًا كنت أجده في عيون أسرتي، كم يحزنني انكسارهم!! ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء.. حفظ الله جلالة السلطان المعظم، وأدام عليه لباس العافية والسلامة، وحفظ الله عُمان وشعبها الوفي من الشرور والمحن.

alikafetan@gmail.com