حميد السعيدي
أَزْمَة واحدة كَشَفت مَدَى هشاشة التخطيط التربوي وعجزه عن إيجاد حلول لمعالجة الزيادة الطلابية نتيجة للنمو السكاني، والهجرة نحو المناطق العُمرانية، وتبخَّرت كل تلك الأماني والأحلام، وعلى طُلابنا تحمُّل نتائج التخطيط التربوي الذي أظهر مدى هشاشته، وعدم مقدرته على مواجهة التحديات أو حتى التفكير في الحلول؛ لذا عليهم تحمُّل تبعات هذا التخطيط؛ هكذا تعلمنا من هذه المؤسسة أنهم يخطؤون في التخطيط وعلى البقية تحمُّل التبعات. أمَّا الأعذار، فكانت موجودة؛ فلا أحد يعترف بأخطائه، وإنما هناك عوامل خارج إرادتنا كانت سببًا فيما يحدث، إنَّها الأزمة المالية وزيادة النمو السُّكاني. ويقال إنَّ التخطيطَ الإستراتيجيَّ يعتمد على الدراسات المستقبلية التي تعتمدُ على الأرقام والإحصائيات السكانية، والتي تعطي مؤشرات يمكن من خلالها التنبؤ بالمستقبل، وعليها نستطيع أن نعمل على توفير احتياجات المنظومة التعليمية من المباني والمعلمين والإداريين...وغيرها من الاحتياجات الأخرى. أما التخطيط الذي يعتمد على الأمزجة والأهواء، فهو يترقب ظهور المشكلة، ثم يفكر في معالجتها بما لديه من إمكانيات؛ لذا فإنَّ هناك فروقات كبيرة بين من يَرْغَب في العمل من أجل مصلحة هذا الوطن، ومن يرغب في الحفاظ على مصلحته الخاص، لذا كل هذه تظهر في أول أزمة صغيرة؛ حيث تكشف كل الإمكانيات والقدرات، وتكشف ماذا كنت تعمل خلال الفترة الماضية!!
وهل لنا أن نرجع لقراءة التاريخ من جديد، ونعود للعام 1996م، عندما تمَّ إقرار النظام التعليم الأساسي، والذي كانت أهم أهدافه التركيز على نشاط المتعلم في التعلم، وبناء المهارات والقدرات العقلية القادرة على الإبداع والابتكار، وهذا النوع من التعليم يحتاج أن يقضي الطالب فترة طويلة في المدرسة بما يتلاءم مع أهدافه، وبالتالي فهو لا يتفق مع التعليم المسائي؛ لذا كان أهم قرار هو العمل على إلغاء مدارس التعليم المسائي، وهذا ما حدث بالفعل؛ حيث تمَّ القضاء على جميع مدارس التعليم الأساسي مع نهاية عام 2008م تقريباً على ما أذكر، ولكن بعد ذلك بدأ مشوار التراجع للخلف، فبدل الاهتمام بتطوير التعليم والعمل على معالجة مشكلاته بصورة مستمرة، وجدنا أنفسنا نتراجع كثيراً؛ فقد بدأ العمل على التعليم في الفترتين الصباحية والمسائية في نفس المبنى، وزاد عدد المعلمين الوافدين ليتجاوز ثمانية آلاف وافد؛ الأمر الذي يعود بنا لنتراجع كثيراً، مُخلفين فاقداً تعليميًّا كبيراً في الوقت والجهد والمال، والأهم من ذلك نخسر مستقبل وطن.
في الكثير من بلدان العالم، تعتمد على نظام تعليمي يمتد من الساعة الثامنة صباحاً حتى الرابعة مساء، ويقضي الطلاب فترة طويلة للتعلم، وبعض الطلاب العُمانيين تعلموا في هذه المدراس بسبب استكمال أولياء أمورهم للدراسات العليا، ولم يشتكِ هؤلاء الطلاب من الفترة الزمنية الطويلة، ويعود ذلك لأنَّ النظام التعليمي يعتمد على التعلم الحديث الذي يركز على أنظمة التعلم البنائي والنشاط، إلى جانب التركيز على مهارات التفكير العليا ومهارات القرن الحادي والعشرين؛ لذا نجد هذه الدول تتصدر قائمة التعليم في الجودة، وتتصدر قائمة التنافسية الاقتصادي؛ فنجاح التعليم يؤثر على تطور الاقتصاد الوطني.
أسئلة كثيرة طرحتها مسبقا، وهنا أعود لذكرها من جديد: لماذا لا نقرأ ولا نحلل النتائج والإحصائيات والمؤشرات؟ أم أنها فقط جداول ننشرها في المواقع الإلكترونية، دون أن نبذل جهدًا عقليًّا بسيطا في قراءتها بحيث نضع رؤية مستقبلية لما سوف يحدث في المستقبل؟! ولماذا نقوم بالتعداد السكاني للسكان والمنشآت إذا لم نستفد منها؟ ولماذا يوجد لدنيا المركز الوطني للإحصاء والمعلومات؟ ولماذا ننفق هذه الأموال في جمع هذه البيانات الإحصائية إذ لم نستغلها جيداً؟ أم أن الكراسي الجليدية أثرت على فكرنا وعملنا من أجل هذا الوطن؟!
اليوم.. على أبناء عُمان تحمُّل أخطاء غيرهم، خاصة في المدراس ذات الفترتين الصباحية والمسائية؛ فكلاهما يخسر الوقت والجهد، ويخسر معهم مستقبل وطن، ومستقبل أجيال كنا نأمل خلال هذه السنوات -وبعد ظهور نتائج الدراسات الدولية وبيوت الخبرة- أن نصلح التعليم، ولكن يبدو أننا نتراجع كثيرًا للخلف، تاركين مشاكل إضافية ترهق طلابنا ومعلمينا في القاعة الصفية، ما بين وقت قليل يمنح للطالب للتعلم، وما بين أجواء حارة لا تصلح للتعليم، وما بين فترة يجب أن يقضيها الطالب في تناول الغداء وما بين انتظاره على أحد الطرقات في وهج النهار ينتظر باص المدرسة، يحمل على كتفيه مستقبل وطن، ويأمل في حصوله على حقه من التعليم بجودة عالية؛ لذا فإنَّ الأحلام تتساقط رويداً رويداً عندما يقف الطالب الساعة 12 ظهراً في ساحة الطابور شامخاً يردد النشيد السلطاني مُعلنًا بداية اليوم الدراسي.
لا وُجُود لدراسة بحثية واحدة تؤكِّد أنَّ التعليم المسائي ناجح، ومخرجاته تتفق والمعايير. فعلى العكس من ذلك، هو يُمثِّل فاقدا تعليميا وخسارة كبيرة في المال والجهد والمستقبل، ولا يُمكن مُعالجة هذه المشكلة مهما كانت الظروف التي وجدت فيها، فهي غير مناسبة للتعليم ولا تحقق أدنى الأهداف التعليمية؛ سواء أن الطلاب سيحلمون أنهم في قاعات صفية للتدريس، والواقع هي لقضاء الوقت. فواقع التعليم المسائي حكاية لن تنتهي إلا عندما ينام ذلك الطفل بعد يوم متعب ومرهق ولا أعرف ما الذي سيتعلمه، لذا سوف أكون قاصا في هذا المقال لأصف الواقع مثل ما هو عليه، ولكم إصدار الحكم.
سيخرج الطلاب من منازلهم الساعة 11 ظهراً لانتظار باص المدرسة في أحد الأزقة، ثم يصلون المدرسة مُبكِّرين، وعليهم انتظار زملائهم من الفترة الأولى مغادرة المدرسة، وبين هذا وذاك تفتح مدرسة وتغلق أخرى، والساعة 12 عليهم التواجد في ساحة الطابور والشمس في كبد السماء، وهنا يبدأ اليوم الدراسي، وخلاله يفقدون وجبة الغداء الأساسية، وعليهم شرب علبة عصير وقطعة من الكعك وتحمُّل الجوع حتى الساعة الخامسة مساء وقت العودة من المدرسة، وخلال ذلك عليهم تحمل درجة الحرارة لأنَّ أجهزة التكييف لم تستبدل منذ تركيبها في العقد الماضي، ومعظم الطلاب سيكون في حالة من الخمول؛ لأنهم نهضوا مُبكرين في الصباح، ومارسوا هواياتهم من اللعب والركض، ثم الاستعداد لليوم الدراسي، إلى جانب أنَّ هذه الفترة هي للراحة والنوم وليست للنشاط والتعلم، هذه حالة الطلاب، ما بين تلك الأجواء لا أعرف كيف تكون حصة التربية الرياضية وفي أي توقيت يناسب الطلاب لممارسة كرة القدم: هل في ساحة الطابور أو ملعب كرة القدم أو القاعة الصفية؟! وهل ستكون الساعة الثانية بعد الظهر؟ ومن يتحملها؟
أمَّا الزمن المخصَّص للحصة في المدراس ذات الفترتين، فسيكون زمن الحصة 35 دقيقة، وهو أقل وقت ينفذ للحصة الدراسية، ولا أعلم ما الذي سيقوم به هذا المعلم خلال هذا الوقت، لا أعتقد أكثر من إلقاء محاضرة وتوجيه أسئلة هنا وهناك، وتشجيع الطلاب على المتابعة.
كُنَّا في الماضي نُطَالب بزيادة الوقت المحددة للحصة الدراسية من 45 دقيقة إلى ساعة كاملة، خاصة لمواد العلوم والرياضيات واللغة العربية والإنجليزية حتى يتمكن المعلم من تطبيق التعلم التحديث وإكساب الطلاب مهارات التفكير العليا ومهارات القرن الحادي والعشرين، وتقديم لهم التغذية الراجعة وتطبيق التقويم من أجل التعلم، ومساعدتهم وتوجيههم من أجل التعلم؛ فكلُّ هذا يحتاج إلى وقت يكون المعلم قادرًا خلاله على التعامل مع فئات الطلاب حسب احتياجاتهم، وحينها يتمكن من إكسابهم المهارات التي تحتاج إلى وقتٍ لأنَّها لا تلقن وإنما تكسب بالممارسة والتفكير الذي يأخذ وقتا مما يدفعهم للابتكار والإبداع.
Hm.alsaidi2@gmail.com