المؤشرات والإحصائيات الوهمية

عمَّار الغزالي

يَأتِي إنشاء وحدة مستقلة لدعم المتابعة والتنفيذ استكمالاً للنهج السَّامي لمولانا حضرة صاحب الجلالة بضرورة النهوض بالأداء الحكومي، وهي فرصة ثمينة للتقييم الموضوعي الشفاف، بهدف تجويد الخدمة وتحسينها، بعيداً عن العبارات الإنشائية وأسلوب التدبيج الذي بات متكررًا من بعض الجهات ويحفظه المواطن عن ظهر قلب، وقد يكون مدعوماً بإحصائيات ومؤشرات بعض الشركات الاستشاريه، والواقع بعيد عن ذلك بُعدَ المشرقين!

معهد الحكومة الإلكترونية بجامعة واسيدا اليابانية وَضَع السلطنة في الترتيب الثالث عربيًّا ضمن المؤشر العام لتقرير الحكومة الإلكترونية للعام 2017م، وهنا لا نُجحف برنامج "استثمر بسهولة" حقَّه، إلا أننا كذلك لا يُمكن أن نُبالغ في الإطراء؛ فكم سمعنا من قصص يرويها عدد ليس بالقليل من روَّاد ورائدات أعمال عن إجراءات وتعقيدات في البرنامج، لا يُدرى السبب وراء تأخُّر اختصارها.. توقعناها المحطة الواحدة توفيرًا للوقت، إلا أنَّنا فوجئنا بتعدد الجهات وتعدُّد الرسوم بمسمياتها وأوجهها وقابضيها، وواقع الحال يقول بأن الأحرى أن نسميها "استخرج أوراق مؤسستك بسهولة" مع العلم بأنَّ استخراج أوراق الشركة هو مجرد بداية البداية لموافقة بقية الجهات الأخرى على البدء بمزاولة العمل، ولم يكن هذا الهدف بالطبع من إنشاء المحطة الواحدة، وإذا جعلنا لغة الأرقام تتحدث، فواقع الحال سيحتم علينا أن نغير المسمى إلى "استثمر بصعوبة"، فلا يخفى على أحد أنَّ عُنصر الوقت في كثير من الإجراءات هو شيء خارج الحسابات، فبينما تتحرك عقارب ساعة المستثمر سريعاً، ينتظر ببطء مُقيت "ورقة" تأخَّر توقيعها أو تم تأجليها حتى رجوع المدير من الإجازة أو اجتماع اللجنة أو إلى أي إشعار آخر.

وحتى لا يختلط الأمر، فأنا هنا لا أقلِّل إطلاقًا من حجم الإنجازات المحتققة والتي رصدتها سُطور هذه التقارير، لكن ما يدعو حقاً للأسف هو التغنِّي بنتائجها وإبرازها في أحجام أكبر بكثير من حجمها الطبيعي، خصوصاً وأنني وأنتَ أيها القارئ الكريم، نرى فيها شيئًا، وعلى أرض الواقع أشياء آخَر.. وما حالات الشد والجذب التي نراها أحياناً تحت قبة مجلس الشورى منا ببعيد، حيث النقاشات والاعتراضات من أصحاب السعادة الأعضاء على أرقام وبيانات بعض الوزارات، فما بالك بتقارير دولية ترسم واقعًا أكثر مُجامَلة من بيان الوزارة ذاته، ثم يُنشر التقرير ويُبرَز تحت عناوين رنَّانة، ويُصدَّق بما له وعليه، ويُعتبر هو الأساس الذي يُبنى عليه، ويتنفس الجميع الصُّعداء بأن همومًا تعترض مسيرة التنمية قد انزاحتْ، ونركن إلى واقع افتراضي مليء بأكثر مما تحقِّق على أرض الواقع، ونُقنع أنفسنا بأنَّ كل شيء على ما يُرام، وننسى أو نتناسى أنَّ مجرَّد الاعتماد على تقارير "تنظُر بعين واحدة" في تقييم الواقع واتخاذ القرارات وتشكيل المواقف أمرٌ يُفضي إلى كثير من الكوارث، وأنَّ الانخداع بتدبيج التقارير التي يُسَرُّ لظاهرها يعتبرُ تزييف لا نخدع به إلا أنفسنا، وإن تراكمت الواحدة تلو الاخرى فهي القشة التي تقسم ظهر البعير.

وأكرِّر بأنَّ الأمر ليس تقليلًا ممَّا تحمله تلك التقارير، بقدر ما هو تأكيد على ضرورة وضعها في حجمها الحقيقي بعد قراءة متأنية وفاحصة لواقع لم يعد خافيًا على أحد.. إذ كيف يقبل العقل تقريرًا لإحدى الشركات المعنيَّة بتحليل بيانات السوق واتجاهات الاستثمار في العالم بحجم "إنفست ماني" البريطانية، تقول فيه بأنَّ "استمرارَ تدفُّق الاستثمارات الأجنبية يعدُّ مؤشرًا على قوة الاقتصاد العُماني"، والتقرير لمن يقرأه لا يُعطي انطباعًا سوى بأنَّك أمام تحليل صحفي يستند لبيانات رسمية فقط -المركز الوطني للإحصاء والمعلومات، والتقرير السنوي للبنك المركزي العماني 2016- وتذييل سطوره باستنتاج سطحي من خبير قد لا تتعدى معرفته عن دولةٍ ما البيانات العامة المذكورة في ويكيبيديا!! هل بهذه الطريقة تُصاغ تقارير ذات مصداقية يأخذ بها المستثمرون ورجال الأعمال لتحديد وجهاتهم لضخ واستثمار أموالهم فيها؟! وهل يُقبل اعتباره بالنسبة لنا أداةً موضوعية لتقييم حجم الاستثمار الأجنبي، وإذا كانت "إنفست ماني" صادقة في زعمها فلماذا يُعرِض المستثمرون عن بلادنا؟! ولماذا تنخفض حجم الاستثمارات الاجنبية بالسلطنة إلى الترتيب الاقل خليجيًّا، وتشكل ما نسبته أقل من 5% من إجمالي الاستثمارات الأجنبية في الخليج؟!

تقريرٌ آخر صادر عن المجلس الثقافي البريطاني يضع السلطنة في المرتبة الثانية عربيًّا ضمن مُؤشر سياسات التنمية المستدامة وانفتاح نظم التعليم العالي، وذلك بعد شهور قلائل من بيان لمعالي الدكتورة وزيرة التعليم العالي أمام مجلس الشورى، أكَّدت فيه صراحة أنَّ 10 آلاف طالب تركوا الدراسة بمؤسسات التعليم العالي، و5 آلاف خريج هندسة سنويًّا لا يجدون شواغر وظيفية، وأن غياب بيانات "رصينة" حول احتياجات سوق العمل تحدٍّ يُوَاجِه الوزارة في تحقيق المواءمة بين البرامج الأكاديمية والتخصصات التي تقدِّمها وحاجة سوق العمل، فأي تقرير معُتَبَر يقيمّ جودة التعليم العالي ويربطه بسياسات التنمية المستدامة ثم يتجاهل المواءمة مع سوق العمل، أما إذا كان التقرير قدَ أخذَ المواءمة في عين الاعتبار، فالمصيبةُ أعظمُ!!!

تقريرٌ معهد حوكمة الموارد الطبيعية في نيويورك، وضع السلطنة هو الآخر في المركز الثاني عربيًّا في مؤشر حوكمة الموارد في العالم للعام 2017، إلا أنَّ تركيز هذا المؤشر بالذات على قطاع النفط والغاز وتقييمه للحوكمه من زوايا معينة وتجاهله لأخرى، يُثبت أنَّ المقصود تقييم حوكمة مجرد جزء من مورد وليس موارد، هل يمكن أن نثق بتقرير عن الحوكمة، والتقرير نفسه لا يطبقها، فاقد الشيء لا يعطيه!!

صحيح أنَّ مثل هذه التقارير والمؤشرات أصبحت ضرورة لابد منها، وأن تجميلها بأقصى ما يمكن يعدُّ إضافة مهمة لتحسين الصورة الكلية، لكنها غير كافية ولا يمكن الركون إليها ولا يمكن أن نتخذها دليلاً على الرضا عن جودة الخدمات، ولا نتوقع أن يكون المستثمرون بهذه السطحية، بحيث يكتفون بالاعتماد على هذه التقارير دون النزول إلى أرض الواقع واختبار الخدمة عمليًّا، لقد أصبح المستثمر أوعى من ذلك بكثير، خصوصا في عصر التنافس الشرس بين دول العالم نحو الانفتاح وتقديم الأفضل، يخبرني أحد المديرين ببنك استثماري عالمي بأنهم اذا أرادوا الاستثمار في دولةٍ ما، لا يكتفون أبداً بالإحصائيات الرسمية، وعليهم أن يراجعوا البيانات بدقة، وبالذات إذا لم يكن مركز الإحصاء في تلك الدولة يتمتع بالاستقلالية التامة.

... إنَّ عجبي لا ينتهي من بعض منظرِّي التقارير والدراسات، فهم يترفعون عن النزول من أبراجهم العاجية ويرفضون أن يلوثوا أيديهم بغبار التنمية، وكان الأولى أن يختبروا الخدمات بأنفسهم ويتحاوروا مع كافة الأطراف ذات العلاقة، وإلا فستكون مؤشراتهم ومن ثَمَّ مرئياتهم وتوصياتهم أقرب إلى الخيال، ولن يثق بها أحد.

فالحالُ أصدق أنباءً من سَهمِ المُؤشرِ...

في حدهِ الحدُ بين الصدقِ والهَذرِ.