الاحترافية المهنية في قيادة المؤسسات

حميد السَّعيدي

أَصْبَح المواطن اليوم هو القاضي الذي يُصدر حكمه على جودة الخدمات التي تقدمها المؤسسات الحكومية؛ لأنها أنشئت من أجل خدمته؛ لذا نجده يضع مجموعة من المعايير التي في ضوئها يحكم على مدى جودة الخدمات، وغالباً ما تكون هذه المعايير مرتبطة بالسرعة في إنجاز المهام، وجودتها، وحداثتها، ومواكبتها لتطور المجتمع، ومدى مقدرتها على مواجهة التحديات والعمل على معالجة المشكلات التي تواجهها، بما يمكنها من تقديم خدماتها بما يحقق رضا المواطن.

ودائما ما تكون القيادات العليا في المؤسسات هي العنصر الأساسي في نجاح المؤسسة، ومدى مقدرتها على تحقيق الأهداف التي تسعى إلى تحقيقها، لذا تعمل الحكومات على تغيير هذه القيادات بصورة مستمرة، والاعتماد على الكفاءات الوطنية القادرة على تحقيق النجاحات والنهوض بالمؤسسات. أما الموظفون، فعملية تطوير قدراتهم دائما ما تربط بمدى مقدرة قيادة المؤسسة على الاستفادة القصوى من الإمكانيات البشرية والمادية بما يمكنها من تحقيق أهدافها وتقديم خدماتها بجودة عالية.

واليوم، نجد الشارع العُماني يُشيد بالعديد من التغيرات التي بدأ يلاحظها على بعض المؤسسات التي استطاعت أن تقدم خدمات عالية الجودة، بل عمدت إلى الاستفادة من التقنيات الحديثة في سرعة إنجاز معاملات المواطنين، حتى وصلت الحال ببعض المواطنين أن يوقف سيارته بجوار الشارع ويستخدم جهاز الهاتف لينجز معاملته التي لا تأخذ أكثر من دقائق معدودة ليأتي الرد سريعا بانتهاء المعاملة وحصوله على الخدمة التي يريدها، في حين أنه يبحث عن جودة الخدمة في بعض المؤسسات ولا يجد لها عنوانا، بل يحصل على خدمات دون المستوى المرغوب فيه، والعكس من ذلك تظل مشاكلها تتجدد كل عام وفي تزايد دون أن ترى نور الحداثة والتطوير، ويظل يعاني من سوء خدماتها، لذا تجد مخرجاتها لا تتوافق مع المعايير التي وضعت من أجل تحقيقها، مما يدعونا للتفكر أين تكمن المشكلة؟

وما يحدث اليوم في بعض المؤسسات التي لا تزال تتراجع كثيراً للخلف وتظهر مشكلاتها السابقة دون إيجاد حلول لها؛ يعني ذلك أنها بحاجة إلى التطوير في إدارتها، حيث إن التجديد في المؤسسات بعد فترة من التقييم، يساعد على توظيف الإمكانيات والكفاءات الوطنية، فلا يمكن التمسك ببعض المسؤولين دون أن يحدث تغيير أو تطوير في مؤسساتهم، خاصة وأن الوطن يضم عددا كبيرا من الكفاءات القادرة على إدارة التغيير نحو الأفضل، وما نشاهده في بعض المؤسسات من نجاحات دليل على أن المسؤول قادر على امتلاك زمام المبادرة والاستفادة من الإمكانيات المتاحة في صناعة الجودة في العمل وتطوير المؤسسة، على العكس من ذلك نجد في بعض المؤسسات التي ترى في الأزمة المالية أعذارا على إخفاقها وفشلها، فالفرق واضح بين من يرغب في تحقيق الإنجازات وبين من يرغب في البقاء في عباءته القديمة.

والأغرب عندما تتابع بعض المؤسسات التي تبحث عن صناعة الجودة، تعمل على جلب مجموعات من الخبراء على شكل فرق متنوعة من مؤسسات عالمية وتدفع مقابلها ملايين الريالات، لتقوم بإجراء الدارسات ووضع التوصيات والمقترحات، ولكن ما يحدث بعد ذلك أن يتم ركن هذه الدراسات جانبا وتبني أفكار غيرها، والسؤال الذي يتبادر للذهن: لماذا يحدث ذلك؟ وأين محاسبة مثل هؤلاء المسؤولين من العبث بالمال العام دون فائدة؟ ثم أين الكفاءات الوطنية من كل ذلك؟ ولماذا نبتعث الموظفين لاستكمال الدراسات العليا والإنفاق على دراستهم ثم لا نستفيد منهم؟! لماذا لا نرسلهم إلى تلك المؤسسات التي نجلب منها الخبراء بحيث نكتسب كفاءات وطنية مدربة قادرة على النهوض بالعمل الوطني؟ إذن، نحن أمام قيادات غير قادرة على الاستفادة من الإمكانيات المالية بالطريقة السليمة، وليس لديهم الثقة في الكفاءات الوطنية التي تمتلكها، فمثل هذه القيادات تحتاج إلى تغيير؛ بحيث نبحث عن قيادات تستطيع أن تحقق الإنجازات بالاعتماد على الموارد البشرية الوطنية، وفي حوار كان لي قبل عام ونصف يصف جزءا من هذه المشكلة مع أحد المسؤولين في إحدى المؤسسات حول التحديات التي تواجه الموظفين، وضرورة إيجاد حلول لها أو قد يضطروا للرحيل، فقال لي نصا: من يرغب بالرحيل فليرحل.... واليوم رحل 90% من تلك الفئة، وهنا يخسر الوطن الكفاءات التي كان يُعتد بها في القيام بواجبها الوطني، خاصة أنه تم اختيارهم على مستوى عالٍ من الجودة، مثل هذه الردود لا يمكن أن تسهم في قيادة مؤسسات لتحقيق الإنجازات والنجاحات؛ فالتعلل بالظروف الحالية ليس هو الحل، وإنما خلق مسارات جديدة تساعد على تطوير أداء الموظفين ومعالجة تحدياتهم، وتحقق الانتماء الوظيفي للمؤسسة، بما ينعكس إيجابيًّا على الأداء العام، فلا يمكن أن تذهب لحرمان الموظف من حقوقه الإدارية والمهنية والمالية، وفي الوقت ذاته تتجه للإنفاق البازخ على حفلات في أغلى الفنادق، أو الإنفاق على الرحلات المكوكية التي تجوب العالم لبعض الفئات من الموظفين، أو الإنفاق على مشاريع لا تحقق تلك النتائج المرجوة في ضوء الأموال التي أنفقت من أجلها. إذن، نحن اليوم بحاجة للاحترافية المهنية التي يجب أن يمتلكها المسؤولون، والتي تستطيع أن تحقق أهدافها وتكيف إمكانياتها المالية والبشرية بما يحقق النتائج المرجوة، فالظروف تتغير بين الحينة والأخرى، ومن يمتلك القيادة الفاعلة هو القادر على التطوير والتحديث بصورة مستمرة دون التعلل بالظروف، وهنا تظهر الحقيقية أمام المواطن، فمن يمتلك الكفاءة يحقق النجاحات، ومن لا يمتلكها يظهر لديه الفشل، ويظل يردد: "الظروف كانت خارج إرادتنا"!!

Hm.alsaidi2@gmail.com