عبيدلي العبيدلي
فئة ثالثة كان من المفترض أن تكون لها كلمتها المؤثرة في المشهد الانتخابي، لكنها جُرِّدت من هذا الحق المنطقي، هي منظمات المجتمع المدني.. وتمتلك هذه الفئة تاريخا عريقا في مسيرة العمل السياسي البحريني تعود إلى العشرينيات من القرن الماضي، عندما تأسَّست النوادي الثقافية التي كانت أجندتها تحمل نطفة البُعد السياسي، ثم تبلورت في إطار ملموس في منتصف الثلاثينيات من القرن ذاته، عندما انبثقت غرفة تجارة وصناعة البحرين.
ثمَّ جاءت الخمسينيات كي تحمل معها أنوية العمل الطلابي البحريني في الجامعات العربية، توجت بتأسيس الاتحاد الوطني لطلبة البحرين، الذي خرجت تجربته كوادر سياسية قيادية تبوأ العديد منها مناصب قيادية في مكونات العمل السياسي البحريني بمختلف شرائحه، بما فيها مؤسسات الدولة.
لم يُقدَّر لتجربة منظمات العمل السياسي البحريني أن تتطور بشكل طبيعي، بفضل ظروف كثيرة ليس هنا مجال الخوض في تفاصيلها، لكن محصلتها كانت تهميش الدور الريادي الذي كان من الممكن أن تمارسه هذه الفئة المتميزة من قنوات العمل السياسي البحريني. وشاهدنا ضمورا ملموسا لها منذ منتصف الثمانينيات، توج بأحداث التسعينيات، ثم استكملت معاول هدمه دورها المدمر خلال الصدامات السياسية التي عرفتها البحرين منذ مطلع العقد الثاني من هذا القرن.
وتثير العلاقة بين منظمات المجتمع المدني والعمل السياسي جدلا مستمرا لم يتوقف. فهناك من يرى "أن الفصل بين النشاط السياسي والنشاط المدني كالفصل بين وجهي العملة الواحدة، ذلك أن التلازم بين العملين قديم قدم نظم المجتمعات البشرية وتشابك مصالحها عبر بعدي التاريخ والجغرافيا، ولعلّ الأمثلة لا تحصى في تكامل النشاطين السياسي والمدني، كالارتباط العضوي والتفاعلي بين النضال النقابي والنضال التحرري عبر التاريخ القديم والحديث، ممَّا أكسب منظمات مدنية كثيرة نوعا من المشروعية للخوض في المسألة السياسية ومناقشة القضايا الوطنية والخيارات المصيرية".
ومقابل ذلك هناك من يعتقد أن تنامي دور المنظمات المدنية وتعاظم مشاركتها في المشهد السياسي من شأنه إضعاف "الاحزاب السياسية، أو تعريضها للنظام الديمقراطي برمته للخطر". لكن بين هذين "التطرفين"، هناك ذلك الموقف الوسط المتزن الذي يتبناه "أنصار المجتمع المدني، (الذين يؤمنون) أن أهمية دوره تنبع من هدف محدد يتمثل أساساً في التنشئة السياسية وتشجيع عمليات التحول الديمقراطي دون أن يرتبط مباشرة باللعبة السياسية بين الأحزاب والحكومة. المشكلة الملتبسة في المجتمعات التي تم استدخال مفهوم المجتمع المدني فيها حديثاً هي غياب تعريف دقيق للمجتمع المدني يبين الوظائف التي يقوم بها بالدولة، الأمر الذي يجعله مجالاً للتلاعبات على نحو يخرجه من دائرة وظائفه التي ينشأ من أجلها.
وثمة من يذهب إلى أبعد من ذلك في توصيف المجتمع المدني ودوره في عملية التحول السياسي، بما فيه المشاركة في السلطة التشريعية، من أمثال الكاتب عمر جمعة العبيدي، الذي يؤكد على أن "التوصيف الدقيق للمجتمع المدني يمر عبر فصله عن المجتمع السياسي وتميزه منه، فإذا كان المجتمع السياسي يشتمل على كل المؤسسات والأجهزة والمنظمات المركزية والمحلية للدولة، أي بمعنى جميع المؤسسات الحكومية على اختلاف مستوياتها المكرسة لبسط سلطان الدولة، فإنَّ المجتمع المدني هو مختلف الأبنية السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والقانونية والحقوقية، التي تنتظم في إطارها شبكة معقدة من التفاعلات والعلاقات والممارسات بين القوى والتكوينات الاجتماعية في المجتمع التي تحدث بصورة ديناميكية ومستمرة من خلال مجموعة المؤسسات التي تنشأ طواعية وتعمل باستقلال عن الدولة".
هذا يجعل -كما يقول الكاتب أنطوان الصنا- مسألة العلاقة بين منظمات المجتمع المدني ومكونات العمل السياسي مثار جدل واسع في أوساط النشطين في العمل السياسي؛ إذ لا يزال "موضوع اعتبار نشاط وعمل الاحزاب والتنظيمات السياسية المختلفة... وكذلك الإعلام بكل أنواعه.... مثار نقاش وجدل وحوار واسع بين المختصين والعاملين في مجال منظمات المجتمع المدني حيث السؤال المطروح: هل تقعان وتدخلان ضمن مفهوم منظمات المجتمع المدني من عدمه؟ وهل تتوافر فيهما الشروط وعناصر وخصائص هذه المنظمات؟!".
وهناك محاولة قام بها الكاتب خضير عباس النداوي، حاول فيها التأصيل لظاهرة بروز وتنامي دور منظمات المجتمع المدني العربية، بفضل مجموعة من العوامل من بينها: "السياسات الاقتصادية، والتحولات الديموغرافية، والدور الذي قامت به المؤسسات المالية الدولية". ثم عاد كي يؤكد على أن مثل "هذه المتغيرات ساهمت بإحداث تحولات جذرية على مستوى الكم والكيف في أوضاع المنظمات غير الحكومية العربية، ما أتاح الفرصة لإعادة النظر بدراسة وتقييم دور منظمات المجتمع المدني كقطاع ثالث يضطلع بقيادة التحولات الاجتماعية والاقتصادية والعلمية بالتعاون مع الدولة والقطاع الخاص في مختلف المجتمعات العربية".
الكاتب وسام عبد الحسين يرسم الدور المطلوب أن تقوم به منظمات المجتمع المدني، خاصة فيما يتعلق بمشاركتها في الانتخابات التشريعية بشكل جلي لا يقبل المناقشة؛ حيث نجده يؤكد على أن "المجتمع المدني يمثل ركيزة أساسية تتطلبها الديمقراطية، فهي لا تسعى للوصول إلى السلطة، وإنما تقوم بدور سياسي بالفعل يتعلق بتنمية ثقافة الحقوق وثقافة المشاركة بما يدعم قيم التحول الديمقراطي الحقيقي وهي قيم المحاسبة والمساءلة وعلى القادة القيمين على السلطة... إدراك ذلك، (مضيفا) يؤدي المجتمع المدني دورا كبيرا في إكساب الفرد خبرة الممارسة الديمقراطية لأنها تدفع به دوما الى المشاركة في الانتخابات والمساهمة في كافة الشؤون السياسية في المجتمع... وبالقدر الذي يسهم في الارتقاء بمستوى الوعي السياسي وبالشكل الذي يؤدي إلى ترسيخ نمط الثقافة السياسية بشكلها الإيجابي".
كلُّ هذا، وكما جاء في الحلقتين السابقتين يجعل من انتخابات 2018 رقما صعبا في معادلة العمل السياسي البحريني، ويقتضي من مكونات العمل السياسي البحريني بمختلف تلاوينها، تلك التي ستشارك، أو المقاطعة منها، أن تعيد النظر ليس في موقفها من الانتخابات فحسب، وإنما البرامج التي ستضعها في الحالتين، وفي القلب من كلتيهما، الدور الذي ستضعه تلك القوى لمنظمات المجتمع المدني، التي قد تجد نفسها تتجاذبها الأطراف على نحو سيئ، يدمرها، ويفقدها جوهر المسؤولية الملقاة على عاتقها في انتخابات 2018.