د. عبدالله باحجاج
انتهى خريف 2017 بوقائع وحقائق كثيرة يغلب عليها التناقض؛ أبرزها: ارتفاع نسبة السياحة الداخلية من حِصَّة خريف 2017 بصورة قياسية، يكاد تصل إلى 80%، والمتبقية تتوزَّع على السياحة الخارجية: الخليجية ومن الدول الأخرى.. وهنا نستدعي تساؤلًا كُنَّا قد طرحناه في مقال سابق؛ وهو: هل السياحة الخريفية للعام 2017 في تراجع أم تطوُّر؟ وما هو معيار الحكم؟
سنستند إلى المؤشرات المئوية؛ فمن الملاحظ أنَّها عرفت مدًّا وجزرًا في مُستوى الانخفاض؛ فقد كانت أرقام مركز الإحصاء والمعلومات في سباق ماراثوني لتحطيم نسب الانخفاض المقارن، حتى مُنتصف شهر أغسطس؛ ففيه شَهِد انتعاشة سياحية ملحوظة، ليس من خلال الإحصائيات، وإنما من خلال الظاهرة السياحية التي نقيس بها مُستوى التدفُّق السياحي، وهى حالة الازدحام والاختناقات المرورية في بعض الشوارع الرئيسية وأمام الدورات رغم إقامة الجسرين.
ومهما يكُن، هناك فاقد سياحي من السوق الخليجية بصورة ملحوظة، لابد أن يطرح التساؤل حول أسبابه؟ ومن يتحمَّل مسؤوليته؟ لأنَّ السياحة الخريفية من منظور مضامين الأرقام في تراجع وليس تقدمًا، وهذا التراجع مردُّه جمود الصناعة السياحية؟ وهذا الجمود قد حوَّلها إلى فوضى وعشوائية، فماذا يجذب السائح الخليجي لظفار أمام إغراءات مناطق سياحية بدءًا من أسعار تذاكر الطيران والإقامة ونهاية بوجود صناعة سياحية راقية جاذبة؟
دون شك، فوضى وعشوائية تجتاح الكثيرَ من مرافقنا السياحية، وتجعل من سياحتنا تتحمل أعباء جديدة تزيد من تخبطنا وتشتتنا، فتشعرنا بالعجز أمامها رغم إمكانياتها السياحية المذهلة، كما تجعلنا نترقَّب بقلق كبير الإستراتيجية السياحية المقبلة لمحافظة ظفار، فهل ستستوعب أهم مقومات ظفار السياحية؟! وكيف سترتب أولوياتها؟ وهل سيصاحبها خطة استثمارية محددة المعالم والمسارات والاتجاهات والمستثمرين، أم سيكون وضعها كغيرها من الإستراتيجيات والخطط؟ تطوير منطقة الحافة أنموذجا؟ فهذا المشروع عالقٌ منذ العام 2006 حتى الآن رغم تعاقُب المسؤولين واللجان عليه، ورغم ما شهده من مركزية ولامركزية.
فهل الإستراتيجية السياحية لظفار الجديدة ستكون وفق الطموحات، وستتجنَّب أخطاء العقود الماضية؟ تفاعُل مَعَالي وزير السياحة مع أحد مقالاتنا الأخيرة، والمعنون باسم "خريف ظفار.. يسوق ذاته لذاته"، جَعَل الطموحات تنفتح على تصوُّرات حالمة، خاصة عندما أوْضَح لنا في رسالة مكتوبة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، أنَّ المخطط السياحي لظفار سيركز على مقوِّماتها، وسيربط البحر بالجبل والصحراء، وعلى مدار العام، كما أعرب عن أمله في الانتهاء من هذا المخطط قريباً، ومثل هذا التصريح المهم من معاليه، يرفع من حدة الترقب والقلق في آن واحد، فكيف سيتم الربط؟ بمعنى ما هى أدواته ووسائله؟ وكيف سيكون على مدار العام؟ وما هى الخطة الاستثمارية؟ وهل ستسحب الأراضي السياحية التي أُعْطِيت لمستثمرين عُمانيين منذ عِدَّة سنوات، ولم يستثمروها حتى الآن؟
ولو رجعنا لموضوعنا اليوم، فإنَّ التساؤل يطرح هنا عن دور الإستراتيجية السياحية الجديدة لظفار في القضاء على الفوضى العشوائية التي تجتاح مرافقنا السياحية البكر؟ وهل هذه القضية تشكل لها أولوية متقدمة أم متأخرة؟ هذه الفوضي والعشوائية قد أصبحت تمس الشخصية الخريفية في العمق رغم الأجواء المناخية والطبيعة غير المسبوقة التي تجدَّدت مُنذ مُنتصف شهر أغسطس، وتتواصل معنا الآن، وكأننا في بداية الخريف، ولسنا في نهايته.
لن نعيشَ أجواء مناخية رائعة بمشاهدها ومشاهداتها أفضل مما تعيشه محافظة ظفار هذه الأيام، حتى لو بحثتا في كل مكان في العالم، ولن نستنشق هواء عليلا، نظيفا، بروائح اللبان والبخور، مثل ما نستنشقه منذ منتصف أغسطس في ظفار، ولن تجد مكانا في الريف والسهل والساحل إلا وستسبِّح فيه لله حمدا وشكرا، واعترافا بجمال لا مدى له، ولا نطاق يحتويه، وإنما هو على مدى البصر، أينما اتجه بصرك، ستقول: "سبحان الله" على هذا الجمال الساحر للحواس الخمس.
ومدى بصرنا ذهب بنا ثلاث مرات متفرقة إلى منطقة أفتلقوت التي تقع غرب صلالة، وتبعد عن الشارع العام المؤدي للمغسيل كيلومترين؛ فماذا وجدنا: انتعاشة سياحية لافتة، من كثرتها، يخيل إليك أن كل السياح والزوار قد استقر المقام بهم في هذا اليوم في أفتلقوت فقط، وقيل لنا إنَّ هذه الانتعاشة السياحية تكون على مدار الأسبوع؛ بمعنى أنَّها قد أصبحت منطقة جذب سياحي بامتياز، وتعدُّ فعلا من بَيْن أهم المناطق السياحية في ظفار، وربما تحتل موقعا متقدما في المراكز الثلاثة الأولى؛ فهذه المنطقة تتجمع فيها البيئات الثلاث: السهل بتلاله، والجبال والشواطئ، تملك لوحدها كل مقومات السياحية العائلية والعلاجية الجاذبة، زادها جمالا إطلالتها على بحر العرب ولبسها ثوبا أخضر على مدى البصر في فصل الخريف، لكنها تمثل نموذجا للفوضى والعشوائية الناجمة عن عدم وجود أي خدمات فيها، وأية بنية أساسية، مثل الطرق؛ فحالة الازدحامات حدِّث ولا حَرَج، وفتح مسارات مرورية فوق العشب الأخضر أيضًا حدِّث ولا حَرَج، ووقوع العربات في الوحل، مشاهد تكرَّرت خلال الزيارات الثلاث لنا، بينما يعكسُ نصب خيام لبيع اللحوم المحلية، مشهد الفوضى المزعجة التي لا تتناغم مع جماليات مشاهد الطبيعة، وسحر تجلياتها المناخية، الحسنة الوحيدة هناك دورات المياه قرب الشارع، ومستوى نظافتها الدائمة.
وأفتلقوت ما هى سوى نموذج للفوضى والعشوائية؛ فهناك أيضًا غياب للتنظيم السياحي في الكثير من مواقعنا التي يرتادها السياح والزوار يوميًّا، ومثالنا الآخر العيون؛ فحدِّث ولا حَرَج، وقد وَصَلت اللامبالاة بها أنْ نفقد على مدار السنتين الأخيرتين رَوْحَيْن؛ إحداهما من جنسية عربية والأخرى عُمانية، ورغم سقوط هاتين الضحيتيْن، لم يتم تحريك الوضع قيد أنملة، وممكن يتكرَّر هذا المشهد في كل خريف، ولا حياة لمن تُسْمِع، ولا لمن تُنَادِي.
انتهى خريف 2017 بكل إيجابياته وسلبياته، فهل ستُسارع الحكومة إلى تقييمه وتقويمه، ووضع خطتيْن عاجلتيْن؛ الأولى قصيرة المدى، تعمل على حلِّ الإشكاليات التي أشرنا إليها في هذا المقال والمقالات السابقة، وتلك التي تناولها زملاؤنا الآخرون؟ والثانية: خطة عاجلة لدراسة معوِّقات تنفيذ المشاريع السياحية المعلنة، وإيجاد حلول لها مالية وتقنية فورية؟ هاتان الخطتان، ينبغي أن تكون لهما الأولوية القصوى من الآن، حتى لا نُفاجأ في خريف 2018، وتتكرَّر معنا الاختلالات نفسها، وهاتان الخطتان ينبغي أن تكونا بمعزل عن إستراتيجية التنمية الجديدة لظفار التي نترقَّبها بتفاؤل بعد توضيحات معالي وزير السياحة الحصرية لنا.