الجامعة العربية في غيابات الجُب

حميد السعيدي

أُنْشِئت هيئة الأمم المتحدة في أعقاب انتهاء الحرب العالمية الثانية، والتي تجاوز عدد ضحاياها ما بين 62 مليونا وحتى 78 مليون قتيل، وتدمير شامل في البنية الأساسية لمعظم الدول التي شاركتْ بالحرب، والتي انتهتْ بإلقاء القنبلتين النوويتين على مُدن اليابان.. إنَّها الحرب الأكثر دموية في تاريخ العالم؛ لذا أُنشئت هذه المنظمة لغايات سامية تتمثل في نشر السلام العالمي، والسعي نحو إيقاف الحروب والصراعات بين دول العالم، وفي الوقت ذاته أُنْشِئت جامعة الدول العربية، وحينها كان الوطن العربي يئن تحت وطأة الاستعمار والاغتصاب لأرضه ووطنه وأهله، وكان مقسَّماً حسب أطماع وأهداف الدول المستعمِرة.

فكانتْ الجامعة الضوءَ الذي يبحثُ عنه العرب في نفق طويل ومظلم، على أمل أن يكون الهدى نحو طريق الاستقلال يأتي عبر هذه المنظمة العربية، فكان أول تجمع عربي يبحث عن وحدة الرأي والقرار، وكانت تحمل آمال الشعوب العربية التي تحتل منطقة متوسطة من العالم القديم، وتمتد من الخليج إلى المحيط كقوى بشرية يتجاوز عددها 400 مليون نسمة؛ مما يعني أنَّ وحدتها تمثل الخوف والرعب لبقية شعوب العالم، إنها القوة الكامنة تحت وطأة الصحراء.

كانتْ هُناك آمال كبيرة وضعها الشعب العربي في هذه المنظمة، أنَّ تعتمد على النهوض بالوحدة العربية والعمل على سيادة الاستقرار والسلام في منطقة مهمة من العالم، ولكن رغم مرور أكثر من 70 عامًا على تأسيس هذه التجمع العربي، إلا أنَّها لم تستطع أن تجمع العرب على كلمة واحدة، على العكس من ذلك كانت سببًا في حدوث الصراعات والاختلافات العربية تحت قبتها؛ فهي لم تستطِع أن تعالج الخلافات العربية الداخلية والتي تطوَّرت إلى صراعات وحروب بينهم، ومنذ حرب الخليج الثانية والتي كانت البداية لانهيار الأنظمة العربية، وكأنها اللعنة التي حلت على العرب، تلك الحرب التي كان من الأجدى مُعالجتها قبل دخول القوات العراقية للكويت، لو كانتْ الجامعة تعمل من أجل تحقيق وحدة الصف العربي، ولكن كانت الصَّدمة كبيرة باحتلال دولة عربية لأخرى، ضاربة عَرْض الحائط كل المواثيق والعهود بين العرب؛ مما يُمثل بادرة لم تحدث في العصر الحديث بين العرب؛ مما شكَّل انتهاكاً صارخاً لكل العهود والمواثيق، وبالرغم من عدم استمرار هذه الحرب لأكثر من سته أشهر، إلا أنَّ آثارها ضلت تؤثر في المنطقة العربية، فتبعها سقوط بغداد وانهيار نظام الحكم فيها، وتحول العراق من دولة قوية لها قدراتها وإمكانياتها الاقتصادية والعسكرية والعلمية إلى دولة فقيرة تعاني من الطائفية والمذهبية والصراعات والحروب الداخلية، وهذه كانت بداية لسقوط الأنظمة العربية التي كانت تمثل القوة العربية في وجهة الغرب.

الأمر لم ينتهِ عند ذلك، فقد كان للجامعة العربية دور في طلب دخول قوات الناتو لطرابلس وضرب نظام الحكم فيها والقضاء على السلطة الحاكمة، وتحول ليبيا إلى دولة لها سيادة وقانون، إلى دولة ضعيفة تعاني من التمزُّق والصراعات وسيادة الجماعات الإرهابية، وانتشار الطائفية، والفوضى بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى، ثم جاء الدور على دمشق وبدأت الجامعة العربية في السعي نحو القضاء على السلطة الحاكمة وطرد سوريا من المنظمة، بل علمت بعض الدول العربية على دعم الصراع الداخلي في الأراضي السورية، نَتَج عن ذلك دمار شامل في البنية الأساسية لسوريا وتشريد ملايين السوريين وموت آلاف الأطفال والنساء، في حين سقط ميثاق عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول من ميثاق المنظمة.

مشوار السقوط لم يتوقف؛ فهذه اليمن رحم العرب تعاني من الحرب والصراعات وانتشار الأمراض، نتيجة لتدخل قوات التحالف العربي في معالجة الصراع الداخلي في اليمن، تحت مظلة دعم الشرعية التي لا وجود لها داخل اليمن.. وما بين كل هذه الأحداث يموت الإنسان وتموت معه كل القيم والمبادئ الإنسانية، ويصبح موته أرخص من قطعة رصاصة تباع بأمواله من أجل قَتْلِه.

فما الذي قدَّمته هذه المنظمة للإنسان العربي؟ واليوم هي أشبه بمن يعاني الموت السريري في ظل الصراعات والاختلافات العربية التي وصلت ذروتها، وصمتها أشبه بمن يشارك في كل هذه الأحداث، فقد أصبحت عاجزة كحالها في السابق حتى اختفى عنها الشجب والإنكار الذي تعودنا عليه، وأصبحت القضايا العربية على الهامش في ظل الاختلاف العربي، فلم تعُد فلسطين هذه الأرض المغتصبة قضية مهمة، ولم يعد سقوط الأنظمة الحاكمة وسيادة الفوضى غاية لمعالجتها، وأصبح الرصاص هو الحل السائد في المنطقة، وهنا أصبح الإنسان العربي لا قيمة له، فأمنه واستقرار وحياته أصبحت على المحك في ظل تضارب المصالح بين الدول العربية.

كل ذلك يعود إلى قراءة خطاب جلالة السلطان قابوس قبل أكثر من 33 عاماً، ودعوته للعرب إلى معالجة اختلافاتهم "ندعو كافة إخواننا القادة العرب إلى نبذ خلافاتهم جانبا، والعمل بجد وإخلاص على تحقيق أهداف التضامن العربي التي أصبحت في هذه الأيام أو في هذه المرحلة الدقيقة أكثر إلحاحا من أي وقت مضى، وأننا نتطلع إلى نهج يعيد للعرب وحدتهم ومجدهم بين الأمم"، واليوم غاب التضامن العربي واغتيلت الوحدة العربية، ولم يعد هناك بصيص أمل لعودة المجد الذي يبحث عنه الإنسان العربي؛ فالخاسر كان ذاك الطفل الذي ينتشل من تحت تلك الأنقاض التي هوت فوق جسده نتيجة قنبلة اشتُرِيَت بأمواله التي كان يفترض أن تكون مبنى لمدرسة يتلقى فيها العلم والمعرفة، ومستشفى يعينه على مواجهة الأمراض، فأصبح إمَّا مُشرَّداً أو شهيداً.

Hm.alsaidi2@gmail.com