هموم حضارية يثيرها رحيل الفنان حسين عبد الرضا

 

عبيدلي العبيدلي

تابعت باهتمام شديد الكثير مما قيل لحظة تناقل الأخبار رحيل الفنان حسين عبد الرضا، الذي لا يختلف اثنان أنّ فقدانه كانت خسارة فادحة تحتاج إلى جهود مثابرة لتعويضها. وباستثناء حالة نشاز واحدة شوهت لوحة الرثاءات التي تدفقت على قنوات التواصل الاجتماعي يمكن تقسيم الحسرات العربية التي رصدتها إلى ثلاث فئات رئيسة:

1.       تلك التي سردت عطاءات الفقيد، وأبرزت زوايا اجتهاداته الفنية التي أهلته أن يحتل مكانة مرموقة استحقها بجدارة بين قمم الكوميديا العربية. وراحت تستعيد مقاطع من مسرحياته التي أتحف بها الجمهور على مدى تجاوز النصف قرن، وأشرطة من المسلسلات التلفزيونية التي كان النجم الأكثر إشعاعا فيها.

2.       تلك التي تخصصت في إبراز القضايا العربية والخليجية السياسية والاقتصادية التي تناولها الفقيد في أدواره من مداخل كوميدية لاذعة، وببراعة فنية أوصلت الفكرة التي تقف وراء المشهد على نحو ممتع وسريع، شدت المشاهد للقطة، دون أن تغيب عنه الهدف الكامن وراءها. الجديد في مسرح الفقيد إن جاز لنا القول، أنه، كما تفصح عنها المشاهد المرصودة، أنه لم يحصر نقده الشديد في دائرة سياسات الأنظمة وسلوكياتها، بل تجاوزها كي يمس وبعمق أخلاقيات المواطن العربي، وتحديدا الخليجي الذي أتخمته أموال النفط، بعد ان أفسدته بالمعنى الحضاري لمفهوم الإفساد.

3.       تلك التي ربطت، وإن كان بشكل باهت، بين ظاهرة الفقيد، ونهوض المسرح الكويتي على أيادي عمالقة المسرح العربي، وعلى وجه التحديد فقيده زكي طليمات، الذي أسس لمسرح كويتي أصيل، رابطة بين تلك النهضة المسرحية والنهضة الثقافية والسياسية التي عرفتها الكويت خلال عقدي الستينيات والسبعينيات من حكم والد الكويت ومؤسس نهضتها المرحوم عبد الله السالم الصباح.

غابت، في خضم ذلك السيل جارف، الذي كان مزيجا من اللوعة، الممزوجة بالحسرة لفقدان هذه الظاهرة الفنية العربية، التي سيصعب تعويضها، قضية في غاية الأهمية تستعدي التوقف عندها عند الحديث عن حسين عبد الرضا، وهي أن كل ما كتب وقيل عنه، وما سوف يقال ويكتب، هو أشبه بنواح كربالائي ربما لن يسمح به الفقيد لو قدر له أن يخرج من قبره كي يواجهه. ربما لن يتوانى حسين عبد الرضا، وهو الذي عرف عنه دماثة الأخلاق، عن شكر كل من شارك في تلك الموجة، لكنه لا شك سيقول لهم ليس هكذا تورد الأبل يا بني يعرب، وليس على النحو الذي أراه.

ودون الحاجة إلى الغوص عميقا في معالجة ما جرى منذ أن تناقلت وكالات الأنباء نبأ رحيل فقيد الفن العربي حسين عبد الرضا، ينبغي القول إن ما قرأناه وشاهدناه خلال الأيام القليلة الماضية هو سلوك ينطلق من خلفية حضارية عربية تنطلق من ذاكرة عربية ضعيفة لا تتذكر قاماتها إلا حين تفقدهم، وعندما تحين لحظة هذه الذكرى تستعاد مشاهد عكاظية - نسبة إلى سوق عكاظ- حيث يتنافخ المادحون ممن يسردون المناقب، ويتصدر النواحون المشهد شاقين الجيوب ولاطمين الخدود لفترة قصيرة لا تلبث أن تذوب بعد أن تتلاشى نشوة من يمارسها.

ليس المقصود هنا إهمال الفقيد، ولا طمس مناقبه، لكن ما يمليه الواجب علينا، كعرب، هو تغيير طريقة ومنهج وسلوك تعاطينا مع رغبتنا في الاعتراف بجميل من نفقده، وإنجازاته، على أن يتم ذلك بشكل متحضر أصيل، أسوة بأمم أخرى كرمت قاماتها على نحو يليق بهم.

ويمكن حصر الأهم بينها في النقاط التالية:

·        تكريم تلك القامات، من أمثال حسين عبد الرضا وسواه من المتميزين العرب، وفي المجالات المختلفة، وهم أحياء، قبل أن يخطفهم الموت من بين أيدينا. فذلك يثير الفرح في نفس من نكافئه أولا، وتكون له كلمته في الطريقة التي يريد أن يكافأ بها. فلربما يختار الفقيد طريقة تختلف جذريا وكلية عما يدور في خاطر من يريدون تكريمه، وربما ينعكس إبداعه في تلك الطريقة أيضا، دون ان يعني ذلك إخفاء المناقب، أو إنكار الإنجازات.

·        تحويل إنجازاتهم ومن قبلها اجتهاداتهم، من مجرد ظواهر آنية قابلة للتآكل والذوبان، إلى تجارب راسخة قابلة للدراسة والتمحيص، ومن ثم الانتقال إلى مستوى النظريات التي تدرس في الجامعات، وتقتفيها الأجيال، ليس على المستوى العربي فحسب، ولكن على الصعيد العالمي أيضا، إسوة بغيرهم من نظرائهم في المجال ذاته. بل ربما يصل الأمر إلى رصد جوائز تحمل أسماءهم ينالها من يقدم إنجازا غير مسبوق في الحقل الإنساني ذي العلاقة بالفقيد المعني.

·        ضمان تحويل التجربة الذاتية للفقيد، التي مهما بلغ اتساع محيط دائرتها، تبقى محصورة في إطار ضيق تفرضه شروط الزمان والمكان، من محيطها الفردي إلى فضائها القومي، وربما الأممي، كي نضمن وضعها على محك دولي يتناولها بالنقد البناء الذي يضفي عليها مسحة العالمية دون أن يفقدها بريقها الوطني أو القومي. هذا ينقل القامات العربية من مجرد ظواهر عربية معزولة عن بقية نظيراتها الدولية إلى مدارس عالمية ينهل من معين إنجازاتها طلاب العلم من أرجاء الكون كافة.

في ذلك دعوة صادقة لإعادة النظر في منهجية تكريم قاماتنا العربية، ليس بالكف عن سرد منجزاتهم وإبراز مناقبهم، وإنّما بالانتقال إلى مستوى حضاري أكثر رقيا يليق بهم ويحفر إنجازاتهم عميقا في صخور الذاكرة الإنسانية قبل العربية، لضمان التحرر من الحالة البكائية المحدودة الضيقة مكانا، والآنية زمنا، إلى براح الاحتفال المتحضر المتدفق مساحة، والمتواصل زمنا.