سياحة فارهة.. وربٌّ غفور

أحمد الهنائي

من أجمل المحطات السياحية التي تَرَكَت انطباعاً حميداً في وجداني، ولم تستطع مغادرة ذاكرتي المتضعضة -والتي أحملها بمشقةٍ على مجابهة الحياة، وهي تزداد وهناً إلى وهن- مدينة شالني أورفا التركية، إذ استسلمتُ فيها إلى مكائد العمران في جذب الانتباه، واسترسال العبق التاريخي للإنسان في بصمته الأبدية على حب البقاء وتخليد الأثر، والأجمل منه هو "تُركّيُّ" تلك المنطقة المندفع للحديث عن جمال البلدة، يصف لك ما تدركه العين، وما يعبر بك خياله إلى مساحات مثيرةٍ من حكاوي وأساطير وأحداث مضت.

هذه الصورة المضيئة في رحلة الزمان والمكان، ارتدت إليَّ مؤخراً، وفي بهاءٍ لا تستطيع حياله إلا أن تفغر فاك مشدوهاً، ومتلذذا في الوقت ذاته، إنما هذه المرة عبر شخصيةٍ عمانية آسرة، تأخذك إلى حيث تشتهي من المعرفة واسترجاع تاريخٍ عطر، اندثرت بعض أركانه، في حين ظلت الأخرى شامخة تتحدى الموت، لتجد من يحسن السياحة بها، ولأجلها، ومن خلالها، إلى نوافذ النور في بريقٍ أخّاذ.

حينما تسير إلى جانب الشيخ محمد بن خليفة الربيعي وأنت تَغُذ السير وتحثُّ الخطى في حجر بني ربيعة، تشعر برغبةٍ شديدة في الإنصات، فالرجل بارعُ في جعلك مأخوذا بالمكان، وأن يسيح بك في تاريخٍ غابر، متمتعاً بذاكرةٍ فولاذية، لا يرققها سوى الحنين إلى ما خلفته تلكم الآثار من حضارة كانت تدب على تلك الأرض في قرى "فلج بني ربيعة، ووادي الحريمة، والفرضة، ووادي القويرة"، وكأنك تقرأ قصة الحضارة من جديد لـويل ديورانت.

يُخيل إليك أن الربيعي لا يتنفس إلا تاريخ بلدته، ولا يتسرب إليه الملل أو السأم من الحديث عن تفاصيل المكان وطوارق الأحداث، يأخذك إلى الحصون الغابرة في خمسمائة سنةٍ خلت، كأكبر حصون جبال الحجر الغربي، منتقلاً بك إلى سجون "المطمرة" ومخازن الأسلحة والمؤن، غير متوانٍ في سرد تفاصيل المدافع المختلفة الأحجام، معرجاً بك على "بيت الصباح" ومعالم الحارات القديمة والأفلاج الداوودية والغيلية، ناسجاً أروع القصص داخل "بيت القبض الأثري" و"برج الحريمة" والقبور الحجرية التي تعود إلى آلاف السنين ولا تزال حيّة حتى اللحظة.

في هذه السياحة الفريدة، تتنازعك الهواجس والخوف من انقضاء الوقت سريعا، فتلك الجولة لا تُمل، إن كان سائقها يقودك إلى مواطن تهفو الأفئدة إلى تنفسها، والاستئناس بشواهدها، حتى تتملكك أمنية كبرى، في أن ينفر من كل قريةٍ في عُمان فردٌ إلى ممارسة فنون هذه السياحة باحترافية، حينها ستشعر حتماً بأن كل بلدةٍ تمتلك وزارة للسياحة.

كان الرجل يشعرك بأنه الوثائقي الأمين، الحارس الوفي على ذاكرة بلده التاريخية، المشغوف بالمكان، وإن لم يربطه بحث علمي، لكن عاطفة قوية تأخذه إلى هذا الألق، ليكون أنموذجا للإنسان الذي يستمتع برسم ابتسامة الأرض على وجهك، وأنت تستقرئ جمال الأثار وبهجة المكان، دون أن يغيب عن ذهنك، أنه كان تلميذاً جيداً لآبائه وللطبيعة البكر التي لم تخدشها بهرجة المدنية، وتناستها يَدُ الترميم والاعتناء، وكأن السياحة في بلدنا لن تتحول إلى صناعةً حقيقية، ما دامت الأرضية قابلةً للتجاهل ولم تنسج العنكبوت خيوطها بعد، ولن تراوح الطبيعة مكانها.

Oman1995@hotmail.com