"إلا ما دُمتَ عليه قائمًا"

 

عمَّار الغزالي

 

على قَدْر ما أحدثته تداعيات انخفاض أسعار النفط على مُستويات مُختلفة، إلا أنَّها تحوَّلت إلى ما يُشبه "الشمَّاعة" التي يُعلِّق عليها البعض أخطاءهم، وينسجون من خَيْط تداعياتها أعذارًا واهيةً لتبرير قُعُوْدِهم عن الاضطلاع بمسؤولياتهم، أو التعدِّي على حِمَى حقوقِ الغير، والسقوط ليس في براثن "المتشابهات" التي لا يعلمهنّ كثير من الناس، وإنما في انتهاك حُرمة العقود فيما يخصُّ التعاملات المالية على وَجْه التحديد. فكَمْ باتت مألوفة على المسامع تلك القصص المتعلقة بإشكالات كبيرة بين أطراف قد يكونون أفرادًا -عاديين أو اعتباريين- أو مع عمَّال وموظفين، أو شركات بينها اتفاقات بشأن مشروعات...وغيرها، والسبب واحدٌ: تأخُّر طرف عن سداد مُستحقات الآخر في الوقت المتفق عليه؛ تذرُّعًا بـ"الظروف المعلومة للجميع"، في استغلال مقيت لظرفٍ عام ولو كان بمقدوره السَّداد، وأحياناً يكون ليًّا لعنق الواقع لتبرير الأمر للنفس يصل حدَّ الاقتناع بأنها مغلوبة على أمرها. وفي غمرة هذا، ينسى الطرف المماطِل -أو يتناسى- حديثًا قدسيًّا رَوَاه البخاري عن رسولنا الكريم يختصر المسافة بين شناعة هذا الفعل وعاقبته؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم، مُعدِّداً الثلاثة الذين يختصمهم الله يوم القيامة؛ ومنهم: ".. رجل استأجر أجيراً فاستوفى منه ولم يعطِ أجره".

والأًجرة والاستئجار هنا على عُمومها، وليست حصرًا على علاقاتٍ مادية بين أفراد. وأيَّة مخالفة أو تأخير، تَضَع الطرف المانح/المموِّل تحت الفئة المذكورة في الحديث بلا شك. ومما يُؤسف له أن ترى بعضهم كريماً سخيًّا مُتصدِّقاً معطاءً مع المحتاجين، لكنه يستصعب على نفسه الوفاء بالتزاماتها، في ازدواجية شديدة وظلمٍ بيِّن لنفسه قبل الآخرين؛ ولو أنَّه تمهَّل قليلاً لأدرك أنَّ أداء الحقوق في وقتها -ولو لغير المسلم- أرجى عند الله مثوبةً من بناء ألف مسجد أو إطعام ألف مسكين، وأنه مقدَّم على الصَّدقات النافلة، حتى وإن لم يتسبَّب التأخير في إحراجات للطرف الآخر، فكيف الحال إنْ تسبَّب؟!! أو إن كان المستحقُّ قد استدان أصلا ليُكمل التزاماته استنادًا لقاعدة "المسلمون عند شروطهم".. بلا شك فإنَّ الأمر حينها سيكون أعظم إثمًا!

ولقد كان حثُّ ديننا الحنيف على الوفاء بالالتزامات المالية فور انتهاء المعاملات، بليغًا في دقته؛ نظرًا لارتباطه بقضية العدل والظلم في المجتمع: "أعطِ الأجير حقه قبل أن يجف عرقه"، واليوم يجفُّ حلقُه بعد عرقه وبعد استكمال المطلوب منه ولا يحصل على حقَّه، وحديث "مُطل الغني ظلم"، والغني المقصود هنا القادر على أداء الحقوق في وقتها لكنه يُماطل في دفعها. ولعلَّ ما يؤسَف له تسويغ البعض لنفسِه المماطلة بعُذر إبقاء أعلى مُعدَّل سيولة في شركته، متجنيًّا على حقوق الآخرين. وبالمناسبة، فإنَّ وِزْرَ هذا النوع من المماطلة لا يقع على الطرف المالك/المانح مُمثَّلا برأس الهرم المؤسسي فحسب، بل إنَّ الشخصيات الاعتبارية في الدوائر المالية وما شابهها، وكل من أعانهم من رؤسائهم ومرؤوسيهم على تأخير دفع المستحقات، كلهم في المحظور واقعون، ويتحمَّل كل منهم نصيبه حسب مسؤوليته وفي حدود صلاحياته.

وفي أحايين كثيرة، قد يصل الأمر حدَّ استمراء الفعل، واختلاق الدفوع والأعذار الواهية التي تبرر للمماطل ذلك، فتجده يتذرَّع بتفاصيل جودة العمل المتفق عليه، مدعياً عدم رضاه عمَّا تم -وفي أوقات كثيرة لا يتعدى الأمر كونه افتراءً ليؤخِّر أجل السداد ليس إلا- أو يتحجج بانشغالاته، ونسى من يرتكب هذا الجرم أنه يعامل ربهُ سبحانه المطلع على النيات ومن يعلم السر وأخفى، أو بإلقاء المسؤولية على جهات أو أشخاص آخرين، أو قد يستغل ثغرات قانونية في العقد تُحلُّه -ولو قليلا- من التزام السداد؛ تاركاً الحلقة الأضعف -صاحب الحقِّ- حائراً بين أمريْن أحلاهما مُر؛ إما الانتظار أو اللجوء للمطالبة بحقِّه قانونيًّا، والأخيرة أدهى وأمر، إذا ما أُخِذ في الاعتبار طول أمد الإجراءات، وحتى إن حُكِم لصالحه بسجن المماطِل، فبربك ما وجه الاستفادة المادية التي سيجنيها حينها؟! والأقسى أن يتلاعب المماطِل بثغرات معينة فيخرج من القضية وليس عليه شيء، وهو وَضْع منتشر جدًّا هذه الأيام للأسف الشديد. ولمناسبة الحديث، أشير إلى إثم وخطورة تحايُل أحد الخصوم أمام القضاء لإيجاد ثغرة يحلُّ بها نفسه من واجباته؛ فقد أخرج الإمام مالك وأحمد والشيخان وأصحاب السنن أنَّ النبي الكريم قال: "إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إليَّ، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له بنحو ما أسمع، فمن قضيت له من حقِّ أخيه شيئًا فلا يأخذه؛ فإنما أقطع له قطعة من النار".

إنَّ هؤلاء المماطلين لو عَقِلوا خطورةَ ما يفعلونه لعظم في قلوبهم شناعته؛ فالله تعالى يقول: "ولا تبخسوا الناس أشياءهم"، ورسوله يوجِّه: "من اقتطع حقَّ امرئ مسلم بيمينه، فقد أوجب الله له النار". وأعرف أحد الأصدقاء يملك شركة صغيرة أفلستْ؛ لأنَّ أحد الدائنين ماطله حتى اضطر أن يُطالب بالقانون، وبالفعل تحصَّل على حقوقه، لكن بعد إفلاسه!!!

وذمَّ اللهُ تعالى فئةً من أهل الكتاب في مَوْضِع يتشابه في معطياته مع سياق الموضوع، بقوله تعالى: "وَمِنْهُم مَنْ إنْ تَأمنه بدِيْنَارٍ لَا يُؤدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِماً"؛ أي بالمطالبة والملازمة والإلحاح في استخلاصه؛ في حين أثنى على بعضهم في مقدمة ذات الآية الكريمة بقوله تعالى: "ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطارٍ يؤده عليك"؛ في دلالةٍ قاطعة على الأمانة وتعظيم أداء الحقوق في ديننا الحنيف.. فلننظر ولنحاسب أنفسنا أخي القارئ الكريم: هل نحنُ من المكترثين بحقوق الغير المبادرين لأدائها الخائفين من تجاوزها، أم ممَّن يُكثر قرع أبوابهم طلباً للحقوق!!!! ولا يَنْسَى المماطل أنه ظالم، وأنَّ الظالم ارتكب جُرماً حرمهُ الله تعالى حتى على نفسه بقوله: "يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي وجعلتهُ بينكم محرماً، فلا تظالموا".

ammaralghazali@hotmail.com