"المصابحة".. وثقافة رد الفعل

د. عبدالله باحجاج

المُصَابحة.. هي عُرفٌ اجتماعيٌّ متأصِّل ومُتجذِّر في مُحافظة ظفار، وهو من أقدس الأعراف، وأنبلها إنسانيًّا واجتماعيًّا، قديمًا وحديثًا، وهي بمثابة مبلغ نقدي يُقدَّم من أفراد المجتمع لأهل العريس، يتفاوت حجمه من شخص لآخر حسب درجة القرابة والمقدرة المالية. والآن، قد أصبح يتفاوت حجمه بسبب كثرة الأعراس التي تكون غالباً في فصل الخريف، وربما في المستقبل القريب بتأثير الضرائب والرسوم.

واستمرارُ هذا العرف حتى الآن، ينمُّ عن الوعي الاجتماعي بالبُعد التضامني والتكافلي بين أفراد المجتمع في مُناسبات الأعراس خاصَّة، كما أنَّ هناك تسميات أخرى قد تتقاطع مع "المصابحة" في مضامينها وإن تعدَّد مساراتها، كـ"الجميل" و"المغبور" اللذين هما بمثابة أدوات مالية بتسميات أخرى، قد يتعدَّد محتواها التكافلي، فتشمل كذلك الوفاة والمرض. فكم من حالة اجتماعية قد انتشلتها مثل هذه الأعراف حتى وقفت على قدميها وعادت لممارسة حياتها الطبيعية، من جديد، وهذا بُعد اجتماعي قد أصبح يُوَازي البُعد الحكومي، فكيف لو كان مُنظَّما؟ وكيف لو فكَّرنا فيه في "دولة الجباية"؟

سنَفْتَح للعمل الخيري الاجتماعي في عَصْر الضرائب ملفًّا خاصًّا لاحقاً؛ فالذي يهمنا في مقال اليوم معرفة التحديات التي ستواجه "المصابحة" في ظلِّ انتقالنا من الدولة الريعية إلى الدولة الجبائية؟ وبالذات بعد العام 2018، وهو مَوْعِد تطبيق ضريبة القيمة المضافة، وكذلك عام 2019، وهو يشكل لنا بداية مرحلة الثقل الاجتماعي بالضرائب والرسوم المتعددة التي تفرض منذ منتصف عام 2014 بسبب الأزمة النفطية.

وهناك تساؤلات نطرحها من منظور الإلمام بالموضوع من زواياه التي تستدعي طرحها في ضوء تلكم التحديات المقبلة؛ أبرزها:

- هل يحرص أغنياء المجتمع المحلي على التفاعل الايجابي مع هذا العرف الاجتماعي من موقع الفاعلين أم موقع رد الفعل؟

- وماذا يُشكِّل استمرار هذه العادة للمجتمع المحلي خاصة، ولبلادنا عامة؟

رُبَّما علينا أن نبدأ من التساؤل الأخير، وهو الذي يقف وراء فتحنا لهذه العرف الاجتماعي. ومن هنا، يمكن القول إنَّه يُشكِّل صمامَ أمان، وحصانة فعلية لجيلنا الجديد من الإغراءات التي قد ترميهم في قاع مستنقعات هدم القيم والأخلاق، وما أكثرها، وما تعدُّد أنواعها، وكذلك طرق الإيقاع والوقوع في براثنها؛ فالكثيرُ من الأسر إن لم يكن أغلبها، تُقْدِم على تزويج أبنائها بعد أن تكون قد استدانت من البنوك أو الأشخاص، على أمل أن تستوفيها من مبالغ "المصابحة"، كلها أو بعضها، حسب عائد العُرس المالي، وتصَّورا الوضع دون عادة "المصابحة"؟ كم أسرة ستعزف عن تزويج أبنائها؟ وكيف سيكون واقع العنوسة في المجتمع في ظل الانفتاح الشامل؟ والتصوُّر ينبغي أن نستشرفه في خلال المدى الزمني القصير من منظوريْن؛ الأول: تداعيات عصر الضرائب والرسوم، وتراكم أعداد الباحثين عن عمل، وثقلهم الأسري والاجتماعي الكبير على راتب ولي الأمر؛ فولي الأمر الذي توقف تطور راتبه منذ العام 2010، أصبح تُحَاصر راتبه مجموعة ضروريات أساسية جديدة، تتمثل في الفاتورة المعيشية المرتفعة، والصرف على باحث عن عمل، فكيف لو في أسرة أكثر من باحث، وفعلا، نعرف أسرة بها ثلاثة باحثين عن عمل، وهذا يعني أن هناك 600 ريال شهريًّا يجب أن تُنفق عليهم على الأقل، إن أراد الحفاظ على انصهارهم النفسي والعضوي في المجتمع، وإلا، فإنَّ هناك البدائل أمامهم مخيفة -لا قدر الله- فهل ستقدر الأسر اقتطاع تلك المبالغ من رواتبها؟ وكم أصلا حجم رواتبها؟ وكيف بوضع المتقاعدين، تساؤلات نطرحها للإلمام بجوانب القضية من أهم تحدياتها، وكيف في ظل هذا الوضع وتعقيداته ستفكر الأسر -مجرد التفكير- في تزويج أبنائها؟ وماذا سيكون البديل؟

المنظور الثاني: رهن بعض المقتدرين والأغنياء فعل مُصابحة العريس برد فعل أهل العريس السابق، أو صناعة فعل لرد فعل مقبل، وقد كان لنا ناقش مع بعضهم على هامش أحد الأعراس الأسبوع الماضي، وتفاجأنا باحتكامهم في المصابحة إلى مرجعية "دفترهم" الذي يُسجِّلون فيه كل مشاركتهم في الأعراس، فهم يسجلون كل مشاركة مالية في الدفتر، وتكون مشاركتهم في الأعراس حسب البيانات التي يسجلونها؛ حيث يرهنون تفاعلية مشاركتهم في المصاحبة وفي مراسم العرس بماضي الآخرين معهم، فكلما تكون قوة الفعل يقابلها قوة رد الفعل (قانون نيوتن الثالث)، والعكس صحيح، وهذا السلوك الذي نتمنى أن يكون محدودا في فئة المقتدرين والأغنياء، يُسهم مع بقية العوامل الأخرى -المشار إليها سابقا- في المساس بجوهر "المصابحة"، كوسيلة دافعة للأسر لزواج أبنائها، بل يكفي به وحده مساسا في العمق بصرف النظر عن العوامل الأخرى.

نُرَاهِن هُنا كثيراً على استمرارية هذا العُرف الاجتماعي الذي ابتدعه الأجداد من ظروفهم آنذاك، ونجد صلاحيته الزمانية والمكانية، مُستدامة، وتتعزز استدامتها كلما انفتحت بلادنا على الكونية، وكلما زاد عُمق تفاعلاتها مع أدوات ومنتوجات العصر المختلفة؛ فلقد أسس لنا الأجداد وسائل للمواجهة والمقاومة، الإيجابية والتلقائية والطبيعية، ومن صلب المجتمع نفسه، فلتمسك بها، وتطويرها حسبما تقتضي الحاجة هو ضمانة الحفاظ على منظومة القيم والأخلاق للمجتمع. وهذا جَوْهر رسالتنا من هذا المقال، أي رفع الوعي المجتمعي -وخاصة لدى الأغنياء- بأهمية دورهم في التفاعلية مع هذا العرف الآن أكثر من أي وقت مضى، خاصة في ظل الظروف المالية المقبلة التي ستُؤثِّر على القدرة المالية لأفراد المجتمع؛ وبالتالي لزاما عليهم أن يحرروا ثقافتهم من التعاطي مع آلية الفعل ورد الفعل، ويصنعوا الفعل على اعتبار أنَّه يندرج ضمن صُلب واجباتهم الاجتماعية المقدسة، وفق أية مرجعية يختارونها، دينية أو اخلاقية مجردة أو وطنية. وفعلا، هنا منطقة وعي ناقصة من حيث مساحتها وعمقها، فكم من فاعل اجتماعي يدرك دور "المصابحة" في إقبال أبناء المجتمع على الزواج؟ والعكس صحيح. ولو أدرك كل فرد من أفراد المجتمع -والعاديون يدركون بالممارسة- أنَّ العائد المالي لـ"المصابحة" والذي يكون في الغالب (20-30 ريالا لكل فرد) تدفع إلى الزواج، وقد تؤدى إلى العزوف، فهل ستتغير ثقافة الفعل المربوط برد الفعل؟ طبيعة المرحلة المقبلة ستخرج الكثير من الأسر عن هذا العرف بسبب الضغوطات المالية، والدور الإستراتيجي للمقتدرين والأغنياء؛ فلا ينبغي أنْ يتنصَّلوا عن دورهم إنْ أردنا الحفاظ على استقرار وتماسك المجتمع عبر مؤسسة الزواج... وللموضوع بقية!!

--------------------

قبل الختام:

تظل مظاهر العرس التي تستنزف المال الكثير، قضية في حد ذاتها، لكنها هى الآن محل مراجعة عميقة وجادة، من قبل ناشطين اجتماعين، يحملون المجتمع بعقلانية رفيعة إلى إعادة تنظيم مناسبات الزواج لتخفيف ثقلها المالي، سنتناولها في مقال لاحق.