د. عبدالله باحجاج
تُحتِّم قضية الباحثين عن عمل في بلادنا إيجاد حلول خارج الصندوق، بل يجب تحطيم الصندوق نفسه، وبسرعة، من أجل التوصُّل لحلول ناجعة لقضية تشهد تراكمات سنوية، وتفتح الآفاق لمخاطر مقبلة، تُرَى الآن بالعين المجردة. فهل نتمسَّك بمنهجية التفكير التقليدية، أم نتجاوزها لاستدراك تداعيات مقبلة؟ فكلُّ الحلول التي تخرج من الصندوق لم تنفذ إلى عُمق هذه القضية، بل تعقدها شكلا ومضمونا؛ وبالتالي، لا مناص أمامنا من كسر الصندوق فورا.
والتفكير خارج الصندوق يعني أن نُطلق العنان للفكر للإبداع، تحرُّرا من كلِّ التجارب والأفكار والمبادئ، والمجيء بحلول جديدة لا تعتمد على أي شيء من هذه التجارب والأفكار، فهل تركنا العقل يختبر أفكارًا جديدة من خارج الصندوق؟
ولعلَّنا نستشهد هنا بما قاله شارلز هولاند دويل مفوض الولايات المتحدة للبراءات والعلامات التجارية ذات مرة: "كل شيء كان من الممكن اختراعه فقد تمَّ اختراعه"، هذه المقولة بالضبط ما نعنيه بالتفكير خارج الصندوق، وقد قالها عام 1899. عندها كان لا يزال الناس يستخدمون الخيل والقطارات البخارية للتنقل، وقبل اختراع السيارات والطائرات بأمدٍ بعيد، ولو لم يتحرَّر تفكير الإنسانية من الأفكار والتجارب الجامدة، لما وصلنا إلى عالم الفضاء والإنترنت..إلخ.
وفي واقعنا العُماني نموذجان؛ الأول -وهو الغالب- لم يخرج من الصندوق في قضية الباحثين عن عمل؛ بحيث نجد الشركات والمؤسسات العامة والخاصة تُصر على شروط جامدة وقاسية لحصول الخريجين على فرص العمل، خاصة في التخصصات العلمية، وبالذات الهندسية، وقد وصل ببعض الشركات الحكومية والعمومية مثلا إلى اشتراط حصول الخريج على نسبة 6.5 في اختبار الآيلتس الخاص باللغة الإنجليزية، وهذه نسبة لن يتمكن الحصول عليها مهندس خريج، بل لن يحصل عليها إلا من تشرب هذه اللغة منذ نعومة أظافره، مما يُفسَّر على نطاق واسع بأن هذه الفرص مُفصَّل لأشخاص دون آخرين...إلخ.
والنتيجة؟ تراكم أعداد الخريجين في الهندسة إلى أن وصلوا إلى أكثر من 5 آلاف، علما بأنَّ عددهم كان في العام 2015 (7009) مهندسين؛ وبالتالي، فإنَّ قضية الباحثين لا تسير في الاتجاه الصحيح، وإنما تكتنفها عرقلة بنيوية في الأفكار، وليس في فرص العمل، ليس مُهمًّا هنا ما إذا كانت شروط الولوج للوظيفة موضوعية أم لا، مع قناعتنا بالصفة التعجيزية للشركات النفطية الكبيرة، والأهم، هنا أنَّ هذه الشركات يجب أن تستوعب الخريجين بمؤهلاتهم ومستوياتهم وخلفياتهم الأكاديمية، مهما كانت الملاحظات عليها، كيف؟ سنؤجِّل الإجابة حتى نعرض النموذج الآخر الذي نجح في استيعاب القضية؛ وذلك عندما فكر من خارج الصندوق.
ونجده فيما أقدمت عليه وزارة القوى العاملة خلال العام الحالي 2017، في إقامة معرضين للتوظيف الفوري؛ أحدهما في ضنك بمحافظة الظاهرة منذ بضعة أشهر، وتمكنت من خلاله من توفير 4800 فرصة عمل في مختلف التخصصات من 30 شركة، وقد تناولناها في مقال سابق بعنوان "من ضنك.. تبدأ مسيرة عودة الأمل" أي الأمل في الحق في العمل، وهو أمل بدأ يذوب بسبب الشروط التعجيزية للشركات التي لا تأخذ بعين الاعتبار ضعفَ التأسيس الأكاديمي للمخرجات، والثاني معرض التوظيف في مسقط منذ ثلاثة أيام، ووظَّف فورا 1300 مهندس من حملة الدبلوم والبكالوريس.
وفكرة إقامة المعارض للتوظيف الفوري، تُمثِّل أفضل نموذج للتفكير خارج الصندوق، وفيه كذلك تحطيم للصندوق نفسه، كيف؟ الكيفية تكمُن في التحوُّل شكلا ومضمونا عن الشروط والإجراءات التعجيزية؛ إذ تستدعي وزارة القوى العاملة من سجلاتها مجموعة من الباحثين، وتعرض عليهم وظائف حسب تخصُّصاتهم بالاتفاق مُسبقا مع الشركات، وفي حالة موافقة الباحث عن عمل على العقد وشروطه يتم التوظيف فورا، وقد تمَّ تخصيص المعرض الثاني للمهندسين فقط، ربما بسبب أعدادهم الكبيرة.
وهنا، ينبغي الإشادة بهذه الخطوة، وكذلك توجيه الشكر للشركات التي تستجيب لهذا النوع من المبادرات، ومثل هذه المبادرات يُعمل بها في دول خليجية مثل السعودية والإمارات، ومن المؤكَّد أنَّ وراءها إحساسًا ينمُّ عن وعي رفيع بحجم قضية الباحثين عن عمل وتداعياتها المستقبلية، لكن: هل تعمَّم؟ هى الآن محدودة، ويجب أن تتبناها الشركات الكبيرة، وبالذات النفطية، التي تبالغ في شرط اللغة الأجنبية، وفي فحص وتدقيق قدرات المهندسين الجدد بطريقة لا تنم عن وعي بحجم هذه القضية، وينبغي أن نحملها على التفكير خارج الصندوق، أسوة بفكرة معارض التوظيف الفورية التي كسبت أبناءنا، وانتشلتهم من الطريق حالك السواد، وأعادت الروح للمئات من أسرنا، فلو تصوَّرتم ماهية الفرحة وحجمها التي تعم الأسر بهذه الوظائف؛ لعرفتم أنَّ المصلحة العُليا تحتم الآن فكرة الوظائف الفورية.
وحماسنا لفكرة التوظيف الفوري مشروطة بوجود برامج تأهيل الخريجين، وبالذات في التخصصات العلمية والفنية كالمهندسين، لتغطية سلبيات التعليم؛ إذ لا يمكننا أن نجد شَرْطيْ اللغة الأجنبية والخبرات التراكمية في المهندس الخريج حديثا؛ فمن أين يُمكنه الحصول عليها، وكلنا نعرف مستوى التعليم في بلادنا؟ وينبغي على هذه الشركات وضع برنامج تأهيلي ممنهج لرفع كفاءة الخريجين؛ من أجل إلحاقهم ببيئة العمل كمنتجين وفاعلين، وللأسف لا يوجد في الشركات التي اطلعنا على أوضاعها نظامٌ مهنيٌّ مُمنهج للتأهيل.
وتِلْكُم ثغرة لا تُحْسَب لصالح أطرنا وكوادرنا العُمانية التي تدير هذه الشركات الكبيرة، والتي أرباحها بالمليارات السنوية، وتصرف على كلِّ مسؤول فيها آلاف الريالات كرواتب شهرية غير الامتيازات المعنوية والمالية الأخرى.. ماذا سينقص من أرباحها السنوية لو خصَّصت القليل منها لغرض التأهيل المهني الممنهج، بل إنَّ كلَّ الدواعي والضرورات الوطنية تجعلها تُسارع في مثل هذه الخطوات فورا، ليس للتوظيف الفوري مع التأهيل الفني الممنهج، بل وللإحلال والتعمين كذلك، ويظل هنا التساؤل قائما وهو: من يحملها على ذلك؟
ليست هناك مُؤسسة مركزية حاكمة للشركات الحكومية والعمومية، وكل واحدة منها تعطي لقضية التوظيف والتعمين اهتمامات متدنية، وربما غير موجود هذا الاهتمام في قاموسها، بدليل ما أشرنا إليه في مقال سابق منشور عن توظيف وافدين في مناصب عليا، وبدليل شروطها التعجيزية في التوظيف التي تشكل صخرة صماء تتحطم فوقها آمال الخريجين في الوظيفة.
فمن أين يأتي الخريج العماني باللغة والخبرة؟ هل ينبغي الذهاب للخارج لاكتسابها؟ وهل سيقبل بعد أن رفض داخل وطنه؟ إذن مصيره إلى المجهول إذا ما تمسكت الشركات الكبيرة بالصندوق ولم تنفتح على مبادرات وزارة القوى العاملة والشركات المشكورة المتعاونة معها.
ومن المعروف أنَّ التنمية في بلادنا تحتاج عددًا كبيرًا من المهندسين ذوي الخبرات المتراكمة، ويقال إن هناك 60 ألفًا من المهندسين الوافدين في بلادنا، وقول آخر يرفعه إلى الضعف، ومهما كان العدد، فقضيتنا الوطنية أصبحت تدور حول التساؤلين التاليين: كيف نُرسِّخ مسار التوظيف الفوري؟ وكيف نؤسِّس الخبرات لجيلنا داخل وطنه؟ القضية في حاجة ماسة لقرار سياسي عاجل، وملزِم، مع توفير ضمانة نجاح له، كإقامة مؤسسة متخصصة ومستقلة بها كفاءات نزيهة، كل هاجسها قضية الباحثين، وإبطال مفعول تداعياتها، تتولَّى ملفَّ التوظيف في الشركات الكبيرة وتحديدا النفطية، ولها صلاحيات صناعة قرار مُلزِم بالتنسيق مع الشركات.. القضية مفتوحة.