الوجاهة من بوابة المنصب

 

هلال بن سالم الزيدي

حاولتُ جَاهِداً أنْ أبحثَ عن السببِ المحض الذي يجعل المرء "الكيان البشري" يزفُّ نفسه في هودج الوجاهة، ويسعى إليها بما أوتي من سُبل مشروعة أو غير مشروعة، لدرجة أنَّه يطأ مبادئه أو المبادئ الإنسانية، ويقذف بهالته بين براثن التقرُّب والتزلُّف حتى ينال مَجْداً ليس جديراً به، فقط لمجرد أنَّ الظروف الوضعية أو تلك المبرمجة مسبقا -ليقال إنها مصادفة- جعلته موجوداً ليولَّى أمور العامة فيطفق ضرباً باليمين فارداً عضلاته. هنا، وبينما أحاول أستوضح تلك الأسباب، وجدت بيتاً من الشعر أو مقولة نُسِبَت إلى سيدنا علي بن أبي طالب -كرَّم الله وجهه- مرَّة، ومرة إلى الحجاج بن يوسف الثقفي -طبعاً مع تقديرنا لقائلها والمناسبة التي قيلت فيه- فذلك البيت الشعري الوارد في الأثر يقول: "إنَّ الفتى من يقول ها أنا ذا.. ليسَ الفَتَى مَنْ يقولُ كان أبي". هنا تجلَّت لي بعضُ الأسباب التي تدفع باللاهثين عن الوجاهة الاجتماعية إلى رفع عقيرتهم كي يقال عنهم إنهم ذوو شأن وشكيمة، وقبل الخوض في الأسباب ومسبباتها عليَّ أن أُبدي وجهة نظري من تلك المقولة؛ إذ إنَّني أراها واقعية إذا ما قِيْسَت بالواقع؛ كونها تُدلِّل على أنَّ المجد وعلو الشأن لا يُمكن أن نبنيه على جهود الآخرين حتى لو كانوا آباءنا، وعليه فذلك يولِّد في النفس عدم الاتكالية، والصعود على أكتاف الآخرين من أجل البحث عن نشوة اجتماعية وهالة تنتهي بانتهاء المنصب الذي يعدُّ هو الوجاهة التي تجعل الفرد مهمًّا في محيطه.

أمَّا لو عُدنا للأسباب التي تختفي خلفها أطماعَ الأفراد حتى يكونوا مهمِّين في مُحيطهم؛ فهي كثيرة تبدأ من جنون أو داء العظمة التي أشار إليها الزميل علي المطاعني في مقاله "فيروس تصدُّر المجالس"؛ حيث وجدها مستشرية في مناسباتنا الاجتماعية دون وجود تقدير لكبار السن أو أصحاب الفكر، وهذا جانب من جوانب البحث عن الوجاهة، إلا أنَّ الأسباب التي جعلت وجاهة المنصب ومغرياته صامدة جاءت عبر آلية وفلسفة توزيع المناصب لأناس غير مؤهلين لها، فقط كونهم تزلَّفوا وطعنوا ظهور الآخرين عن طريق تدمير سمعة فرد أمام متخذ القرار، هذا مع وجود بيئة حاضنة يمارس هؤلاء الطغاة لهاثهم فيها؛ لذلك استطاعوا أن يبنوا هالة وظيفية لهم بسبب تواطؤ المسؤولين من أمثالهم، وبالتالي سكنهم الجنون وظهروا بوجوه متعددة، حتى بلغ الأمر بأننا لا نستطيع أن نفرِّق بين صدقهم وكذبهم، فتراهم أمامك بكلام منمق، وفي تصرفاتهم تشاهد النقيض، خاصة عندما يملكون صفة المسؤولية على عدد كبير من الأفراد.

من المؤكد أن وجود تلك الأصناف من البشر يؤثر تأثيرا سلبيا على القطاع الذي يتآمرون فيه فيتصرفون بعنجهية المصلحة الخاصة التي تؤدي بالمصالح العامة إلى الحضيض، لأنهم لا يراعون في معاملاتهم إلًّا ولا ذمة، وإنما تسيِّرهم عاطفة التسيُّد وحب الذات، التي تفضي إلى تهميش القدرات والكفاءات وتتعطل على أثرها مصالح الناس الذين يبحثون عن معاملة حسنة وقوانين تكفل لهم عيشا كريما؛ لذلك ومع وجود تلك القوانين فإنَّ "أولئك" يعملون على تعطيل القانون والتأخير في قضاء حوائج الأفراد، لأنهم يؤمنون بأن التعقيد والمماطلة جزء من هالة المنصب التي يجب أن يتميزوا بها، حتى يقال بأن "فلاناً مهماً".   

تتولَّد لدى فئة من الناس رغبة فطرية أطلق عليها الكاتب الكويتي محمد النغيمش "شهوة المنصب الفطرية"، وقد أوضح الكاتب في مقاله قائلا: "بعض المديرين في مناصبهم كالشوك لا يزول إلا باقتلاعه وبعضهم كالورود، أينما وضعته كان زاكي الرائحة" (انتهى الاقتباس)، لذلك فإنَّ مسألة حب التملك والسيطرة هي غريزة فطرية، وربما نستطيع القول بأنها متاحة إذا كانت عبر تنافس شريف بموازين واضحة، أما إذا كانت تأتي بطرق ملتوية فبالتأكيد ستكون فطرة غير سليمة ومنحرفة عن جادة الصواب؛ لدرجة أنه يصل الأمر بأن الموظف يكون أكثر إنتاجا في فترة غياب مسؤوله، وهذا يدل على فشل المسؤول في تفجير طاقة موظفيه وتوجيه قدراتهم.

إنَّ الأمر بات مستفحلا، والكثير يتحدث عن أهمية وجود تقييم صارم لأداء منصب المدير فأعلى، مع ضرورة وضع فترة زمنية لا تزيد على الـ10 سنوات في المنصب، أو إخضاعه للتدوير الوظيفي المتقن، فليس إخفاق قطاع أو دائرة سببه الموظفون، فربما يكون المسؤول هو السبب الأكبر كونه لا يملك من المسؤولية إلا الوجاهة والتقرب إلى المسؤول الأعلى حفاظا على موضعه الذي لا يمكن أن يتضعضع عنه قيد أنمله، وبالتالي تتشكَّل الوجاهة من بوابة المنصب وتتنامى ليظهر الفساد في الأرض.

----------------------------------

همسة:

يُقال: "اعطِ الخبز خبَّازه حتى لو أكل نصفه".. لكن، هل من الممكن أن نعطي الخبز أو العجين للخياط؟ حسب الواقع مُمكن جدًّا، فهل يا تُرَى تتفقون معي؟

كاتبٌ وإعلامي

abuzaidi2007@hotmail.com