أسطورة ربط التعليم بسوق العمل

 

د. سيف المعمري

هل بالفعل تعليمنا العالي يرتبط بسوق العمل؟ أم أنّ هذه أسطورة عملت الجهات المشرفة على شؤون التعليم على ترسيخها بشكل ممنهج في أذهان الجميع، مستعينة في ذلك بسلطتها كونها مرجعية تحتكر أمر صياغة السياسات واتخاذ القرارات المختلفة المتعلقة بفتح الكليات والجامعات والأقسام وغيرها من التي يوزع إليها الطلبة؛ سواء كانوا يعرفون أنه ستكون لهم فرصة للحصول على وظيفة أم لا؟ هي فرصة لا يجب أن يرفضها، أيا كان مكانها؛ فمؤسسات التعليم العالي لا تتساوى من حيث إمكاناتها ومستواها وإدارتها وضبطها لبرامجها الأكاديمية وثبات أنظمة التقويم فيها، ووفقا لذلك هناك مؤسسات من فئة أربع نجوم وهناك مؤسسات ثلاث نجوم وهناك مؤسسات من فئة نجمتين، وهناك مؤسسات نجمة واحدة، وهناك مؤسسات بدون نجوم، ومع ذلك الجميع يدرس مختلف التخصصات الحقيقية، والجميع يحصل على فرص متساوية، وبغض النظر عن ارتباط ما يقدم بسوق العمل إمّا كتوظيف أو للعمل باستقلالية، لذا علينا أن نتوقف قليلا مع هذه الأسطورة ونحلل بعضا من المؤثرات المرتبطة بها، حتى لا يظل البعض يتخفى وراء هذه الأسطورة ويعمل على ترسيخها بدلا من تفكيكها والانطلاق إلى إصلاح حقيقي للتعليم العالي.

ما الذي يقوله الواقع لنا حول مسألة المواءمة بين احتياجات السوق والتعليم؛ تشير إحصاءات المركز الوطني للإحصاء والمعلومات إلى أنّ إجمالي القوى الوطنية التي استوعبها القطاع الخاص في عام 2016 بلغ 13 ألفا؛ ولكن أين ذهب هؤلاء؟ إلى قطاعات تتطلب مؤهلات عليا أم هي قطاعات تتطلب مهارات دنيا؟ يمكن أن نلخص الإجابة في النقاط التالية:

-  تشير إحصاءات نشرتها جريدة عمان صادرة من الهيىة العامة لسجل القوى العاملة لعام 2016 قدمتها أمل رجب بعنوان "سوق العمل ينتظر مبادرات تنفيذ" أن تلك الأعداد ذهبت إلى قطاعات بعيدة عن تلك التي تخرج منها الطلبة في مؤسسات التعليم العالي، حيث يأتي قطاع الإنشاءات في المرتبة الأولى بنسبة (٤٠.٣) وبعد ذلك تجارة الجملة والتجزئة وإصلاح السيارات بنسبة (١٢.٥%)، والصناعة التحويلية بنسبة (١١.٧%)، والخدمات المنزلية بنسبة (١٠.٧%)، وقطاع الزراعة والأسماك بنسبة (٥.٧%)، ما الذي تعنيه هذه النسب لمتخذي القرار في ظل ثبات التخصصات والمناهج، وما نوعية الوظائف التي وظف فيها الشباب العمانيون في هذه القطاعات؟ وهل تتطلب الدراسة الأكاديمية المتعمقة التي تكلف البلد عشرات الملايين من الريالات؟.

-  نفس الإحصاءات تشير إلى أنّ أكثر القطاعات نموًا وتوليدا للوظائف هي قطاعات الخدمات المنزلية بنسبة (٦.٣%)، ومن ثمّ قطاع الصحة والعمل الاجتماعي (٤.٩%)، ومن ثم قطاع التعليم (٤.٧%)، ومن ثمّ قطاع المنظمات والهيئات الدولية بنسبة (٣.٧%)، هذه القطاعات التي تجذب عمالة وافدة إليها وبعضها لا يوفر وظائف بدخول عالية، ولكن هناك قطاعات تشهد نموا نتيجة التوسع في قطاع التعليم الخاص والتعليم العالي والطب مما يتطلب مواكبة ذلك بالتوسع في هذه المجالات، وإعادة التشريع لها حتى تكون قطاعات جذب للخريجين العمانيين الذين يمكن أن يكونوا أداة للنهوض بها خاصة مع توفر الجودة في التعليم، هل ذلك ممكن؟

-  تشير هذه الإحصاءات المنشورة إلى أنّ هناك علاقة طردية بين ارتفاع أسعار النفط وتزايد توليد الوظائف في القطاع الخاص، ووفقا للبنك المركزي فإن أكثر فترة شهدت نموًا في الطلب على التوظيف في القطاع خاص كانت خلال ارتفاع أسعار النفط أي خلال الفترة من (٢٠٠٩ -2013) وبلغت نسبة النمو 11.9، إذن من المتوقع أن يكون هناك تباطؤ كبير في توفير وظائف لأصحاب المؤهلات من الخريجين خلال السنوات القادمة، كيف يمكن أن تتعامل مؤسسات التعليم مع هذا الواقع؟ هل بالثبات على نفس التخصصات والتفرّج على تزايد أعداد الشباب الذين يكونون خارج دائرة العمل أم بتغيّر النهج والبدء في إحداث تغييرات جوهرية في خريطة التعليم بشكل يتخذ شكل إعادة بناء جديدة؟

-  يشير مختبر القوى العاملة التابع لبرنامج التنويع الاقتصادي إلى أنّ عدد الداخلين إلى سوق العمل سنويا يبلغ 44 ألف خريج حتى عام 2020 والمعدل الحالي لتوفير الوظائف هو 13 ألفا فقط، أي أن العجز الوظيفي سيكون 31 ألفا سنويا بمجموع عجز قدره 93 ألف خلال ثلاث سنوات ما لم يحدث تدخل في كلا القطاعين؛ سوق العمل ومؤسسات التعليم.

-  إنّ حملة البكالوريوس يشكلون غالبية مجموع الباحثين عن عمل (١٦ ألفا و94)، يليهم عدد الحاصلين على الدبلوم الجامعي بعدد (٨ آلاف و368)، ومن ثم الحاصلين على دبلوم التعليم العام (١٣ ألفا و643)، وبلغ عدد الباحثين من حملة الماجستير والدكتوراه (٩٦) باحثاً، ومعظم هؤلاء من حملة البكالوريوس والدبلوم في تخصصات هندسية وتجارية وإدارية وتقنية معلومات،

-  بلغ عدد التخصصات المتاحة لطلبة الدبلوم العام (500 برنامج) أقلّها برامج مؤسسات التعليم العالي الحكومية (٨٨) برنامجا وأعلاها برامج البعثات والمنح الخارجية (271)، في حين وصل عدد برامج المنح الداخلية أي منح مؤسسات التعليم العالي الخاص ((141 تستحوذ منها الهندسة والتقنيات ذات الصلة على نسبة (٢٤.٢٠%) تليها الإدارة والمعاملات التجارية بنسبة (16.20%) ومن ثمّ الصحة (١١.٤٠%) وتكنولوجيا المعلومات بنسبة (7.80%) والمجتمع والثقافة بنسبة (11.80%)، وهي تخصصات وفق إحصاءات الجهات الفاعلة في الإحصاء مثل المركز الوطني للإحصاء والجهات الفاعلة في التشغيل مثل الهيئة الوطنية لسجل القوى العاملة لا تتلاءم مع متطلبات الواقع بل إنّ كثيرا من الباحثين عن عمل هم خريجوها وكذلك المتسرّبون من مقاعد الدراسة ينتمون إليها كما تشير آخر إحصائية تعود للعام الجامعي 2014/2015 حيث بلغ عددهم في تخصص الهندسة 31.3% والإدارة والتجارة بنسبة 28.9%، وتكنولوجيا المعلومات بنسبة 12% وهي التخصصات التي أكّد عليها طوال عقدين متخذو القرار التعليمي ورجال الأعمال ولكن يبدو أن ذلك التبشير لم يكن مبنيا على استشراف جيد للواقع.

-  إذن ربط التعليم بسوق العمل لا يزال أسطورة تعشعش في أذهان كثيرين من أجل الإبقاء على الواقع الحالي الذي يتيح لمؤسسات تعليمية أن تستمر في الحصول على بعثات وفق نفس الفلسفة التي بنيت عليها وهي تلبية متطلبات السوق، وقد يتم الترخيص لمؤسسات أخرى؛ ولكن حين يُطرح ملف التوظيف يتنصّل الجميع من مثل هذا الخطاب، وأكبر ضربة وُجهت لهذا الخطاب كانت من معالي وزيرة التعليم العالي في ديسمبر 2017، حين ردت على الأعضاء "سوق العمل صغير والتوظيف ليس من اختصاصي"، وهو نفس رد رجال الأعمال الذين يقولون "التعليم بعيد عن احتياجات مؤسساتنا ولا نستطيع أن نوظف"، ووفق ذلك لم يعد التعليم هو قاطرة التنمية، ولم يعد أداة للتنويع والاستجابة لمتطلبات القرن الحادي والعشرين، بل أصبح وفق ذلك معيقا استراتيجيا وتحدياً أمنيا للبلد في المستقبل القريب، وإن لم يحدث تدخل وإعادة بناء بعقلية جديدة وفلسفة متطورة فهناك تراكمات لن نستطيع علاجها.