تأهيل بلا تمكين..!

 

 

عمَّار الغزالي

"وماذا يُفيد التأهيل بلا تمكين؟".. سؤال تَفْرِضه برامج التدريب الوطنية لموظفينا على كَثْرَتِها هذه الأيام، والتي أفردتُ سياقًا لها مؤخراً تحت عُنوان "كيف تُقيَّم برامجنا الوطنية؟"، أكَّدتُ فيه أن نجاح أهدافها مرهون بالتغذية الراجعة من المشاركين والتي تبرهن على ظهور نتائج مُثمرة على المستوى الوطني والمؤسسَّي، وأن تتعمَّق لتصل للجذور، حتى تؤسِّس لمجتمع ريادي فاعل أعلى إنتاجية وتنافسية. إلا أنَّنا اليوم ومن خلال تقييم الواقع بكل موضوعية، لا تبدو هناك أي مؤشرات لإستراتيجية واضحة المعالم لتأهيل الكفاءات وتمكينها.

الأمرُ يدلُ -حسب فهمي- على أنَّ إشكالية التمكين بما يتطلبه من تخلٍّ عن النموذج التقليدي للقيادة، لا تعمِّقها مُستويات كفاءة أو قدرة كوادرنا الوطنية، بقدر ما تعترض مسيرتها جُملة معوقَّات تتعلق بآلية إنفاذها من الأساس؛ سواءً بسبب البناء التنظيمي الهرمي المعقَّد لمؤسساتنا، أو المركزية الشديدة في اتخاذ القرارات، أو مخاوف فقدان السُّلطة وعدم الرَّغبة في التغيير، ومخاوف فقدان الصلاحيات، إضافة للأنظمة والإجراءات التي لا تشجع على المبادرة، وضعف نُظم التحفيز وتفضيل أسلوب القيادة الإدارية التقليدية.. وهي عقبات كؤود تَرْجُح كفتها إذا ما قورنت بمجرد الحديث السطحي عن مجرد تأهيل الكفاءات.

للباحثة آن بنت سعيد الكندية أطروحة أكاديمية رصينة وَضَعَت فيها النقاط على الحروف؛ بدراسة آليَّات بناء القيادات للقطاع العام في الدول المتقدمة؛ حيث درست الكندية التجربة السنغافورية الرائدة بعُمق، ووضعتها كنموذج استرشادي لتعظيم الاستفادة من الموارد البشرية؛ وذلك لانتشال الاقتصاد السنغافوري من العالم الثالث إلى العالم الأول؛ وخلُصَت فيها إلى أنَّ الحاجة باتت ماسَّة لإستراتيجية مُتكاملة للتنمية الموارد البشرية أساسها تكافؤ الفرص، وأنَّ أيَّة إستراتيجية بدون هذا الأساس هي هدر للوقت والمال.

ولعلَّ استحكام معايير غير الكفاءة في اختيار القيادات، سيجعلنا ندور في حلقات مفرغة بحثًا عن حلول، بل وسيؤدي بنا إلى كارثة أكبر وهي هجرة العقول بعد الصرف عليها؛ إذ سيفقد أبناء المؤسسه الأمل في الحصول على فرصة تكافئ تطلعاته وقدراته، بل ووُعِد بها يوماً، بعدما تمَّ تدريبه وتأهيله في جلسات وورش تدريب مركَّزة، وجلسات عصف ذهني موسَّعة، على يد خبراء مؤهَّلين، وبتنظيم من جهات معلومة ومشهود لها على المستوى الوطني، تزوَّد خلالها بالمعارف والمعلومات التي أكسبته المهارة اللازمة لأداء العمل، وتطوير ما لديه من مهارات وخبرات.. وأعود لأتساءل: إنْ كانت المشكلة كما يُزعَم في إمكاناته، فلماذا مُنح شهادة مُعتمدة بإتمامه البرنامج بنجاح وعُلقت على حائط مكتبه بأجمل برواز؟!

الوضعُ يثير جُملة تساؤلات مشروعة حول غياب إستراتيجية تمكين وطنية واضحة المعالم، توفِّر مناخا تنظيميًّا إيجابيًّا لتنفيذ الإستراتيجيات الإدارية الحديثة الضامنة لتحقيق جودة أداء مؤسساتنا بما يجعلها أكثر استجابة للسوق، ويخفِّض عدد المستويات الإدارية في الهياكل التنظيمية، وبالتالي خفض زمن اتخاذ القرار وتخفيض تكاليف التشغيل، ورفع مستوى تركيز الإدارات العليا على القضايا الإستراتيجيةوالتفرغ لما هو أهم وللصورة الكلية للمنظمة ، وترك الأمور اليومية الروتينية للصف الثاني بعد توصيف وظيفي واضح ودليل تفصيلي للخدمات ومهام كل وحدة بمايضمن سهولة الرقابة وقياس الأداء.

إنَّ من أكبر معوِّقات التمكين في مؤسساتنا -في رأيي- هو الصِّدام الحاصل في الفكرة نفسها، من حيث قبول مبدأ "الدوران الوظيفي"، الهادف لتحريك الموظف من موقع إلى آخر في ذات المنظمة، كأسلوب مُجرب للتطوير الوظيفي للموظف من ناحية، وضخ دماء جديدة للموقع الوظيفي من ناحية أخرى، بحيث يتمكَّن خلالها الموظف من إبراز مهاراته، ومنحه الفرصة لإثبات الجدارة، وهي آلية معروفة تتبعها الشركات العالمية؛ من أجل محاربة البيروقراطية والروتين وكذالك محاربة الفساد؛ فبقاء مدير للمشريات أو للعقود مدة طويلة يزيد فرصة التلاعب والفساد، وكذلك إتاحة الفرصة للأجيال الصاعدة وتمكينهم وإعطائهم الثقة والفرصة ليكونوا في مقدِّمة الصفِّ بأفكار إبداعية خلاقة تتماشى ومستجدات الواقع من حولنا.

وهو الأمر ذاته الذي ينطبق على غياب تشريع تُحكِم لائحته التنفيذية طريقة تولِّي الوظائف القيادية، إذ إن وجود منظومة قانونية تضبط تعيين القيادات في المؤسسات؛ سيُعزِّز بلا أدنى شك مبادئ الكفاءة وتطوير الأداء، وبالتالي حُسن تنفیذ الخطط والإستراتيجيات، وإتاحة فرص متكافئة لإنصاف الكفاءات الوطنية وقد يتضمن القانون مدَّة زمنية مُحدَّدة للجلوس على أي مقعد حتى على رأس المؤسسة.. وهي نقطة تتفرَّع للحديث عمَّا يُصطلح عليه اليوم بـ"حوكمة الوظائف القيادية".

إنَّ المستجدَّات الحاصلة اليوم على مستوى التنافسية العالمية، لابد أن تكون بمثابة مَرَاجع نستقي منها موجِّهات المستقبل بما يُناسب خصوصية سوق العمل لدينا، والتجارب الرائدة من حولنا كذلك لابد أن تكون مصدر تحفيز لإيجاد أفكار تبتعد عن النمط الكلاسيكي التقليدي في إدارة ملفات بهذا القدر من الأهمية؛ إذ كما يُفترض على نُظم التدريب أن ترفع سقف التحدي وأن تتبنى شعار التدريب المتميز تحقيقًا لجودة مخرجاتها؛ على مؤسساتنا والجهات القائمة عليها أيضًا أن تباشر مسؤوليتها في تغيير نظرتها للواقع من حولها بما يضمن إتاحة الفرصة أمام أفكار إبداعية لقيادات شابة قادرة على إحداث التغيير؛ وإلا فما العائد الذي يعود على الوطن واقتصاده وأبناؤه من برامج تأهيل وتدريب لا يُدرى ماذا حققت على أرض الواقع !!!

لقد ذكر لي كوان يو غيرَ مرة -وهو الأب الروحي لقصة التفوق السنغافوري- وبكل وضوح أنَّ الكفاءة والنزاهة هما معيار اختيار الكفاءات، وأن الالتزام بهذا المبدأ بشكل صارم هو شيفرة النموذج الاقتصادي للسنغافورة، وليس هذا ببعيد عن أسرار الآيتين الكريمتين في القرآن العظيم: "إنَّ خير من استأجرت القوي الأمين"، وقوله تعالى على لسان يوسف الصديق: "اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم".. فالسنن الكونية قائمة قائمة، وهي ذاتها ذاتها منذ أن خلق الله الأرض ومن عليها، فهل من مُدَّكِر؟!

ammaralghazali@hotmail.com