التسريبات وحكاية الضفدع والعقرب

 

زاهر المحروقي

منذ بداية الأزمة الخليجية، غرق المتابعون في طوفان من التسريبات والتسريبات المضادة؛ فكلُّ طرف يريد أن يكسب ودَّ الرئيس ترامب، بأن يثبت أنَّه بريءٌ من تهمة تأييد الإرهاب وأنّ الطرف الآخر هو المتهم، في خطوة كشفت الكثير من المخبوء والمستور.

وخلاصةُ ما ظهر من تلك التسريبات والتسريبات المضادة، هو أنّ بعضاً من الدول الخليجية قد تورَّط تورطًا مباشرًا في كلِّ الأزمات التي حدثت في الوطن العربي، من قتل وتدمير وثورات وانقلابات؛ وهذا لم يكن خافيًا على المتابعين، إلا أنّ هذه التسريبات أثبتت تلك التهم بما لا يدع أيَّ مجال للشك، ممّا يعني أنّ الأمر قد يكون له تبعاتٌ قانونيةٌ مستقبلاً؛ وهذا بدوره سيفتح بابًا آخر لابتزاز هذه الدول أكثر من الابتزاز الحالي، الذي يمارسه الرئيس الأمريكي، إذ أنّ الكلّ قد وقع في الفخ. فبعد أن تخفُت الأزمة الخليجية، سيتم فتح ملفات المحاسبة، وقد ينال المخطئون جزاءهم إذا لم يدفعوا، لأنّ أمر الابتزاز لا يقع إلا على الضعفاء؛ فلم نر مثلاً أنّ الرئيس ترامب ابتز كوريا الشمالية أو كوبا أو إيران، وإنما يبتز من يرى أنّه لقمة سائغة ويستأهل ذلك الابتزاز.

إنّ التسريبات الخليجية جعلت الدول الغربية، ومعها الإدارة الأمريكية، في حالة "دهشة حقيقية"، بسبب كم ونوع المعلومات الاستخبارية التي تُقدَّم لها، وتُثبت تورط الدول الخليجية في دعم وتمويل نشاطات أو جماعات إرهابية في المنطقة وخارجها؛ ومن ذلك ما نسبته صحيفة "رأي اليوم" إلى دبلوماسيٍّ غربيٍّ لم تسمه، من شعور الكثير من المسؤولين الغربيين الذين زاروا الدوحة أو أبوظبي أو الرياض بما وصفه "الصدمة الحقيقية" من حجم المعلومات الاستخبارية التي قدَّمها الخليجيون ضد بعضهم البعض. وطالت هذه المعلومات أزمات ومحطات إقليمية مثيرة ومهمة تخص مصر وليبيا والسودان واليمن وسوريا. ووصف هذا  الدبلوماسيُّ ما توفر من حصيلة استخبارية بأنّه مثيرٌ جداً للدهشة.

ولماذا لا تثير تلك المعلومات الدهشة؟. فما الذي جعل مثل هذه الدول تتدخل في ليبيا وتدفع أكثر من ثلاثة مليارات دولار للإطاحة بالعقيد القذافي؟ وما الداعي بأن تتدخل هذه الدول في سوريا، وهي – أي سوريا -  التي لم تتدخل في شؤون الآخرين؟ وماذا يضير هذه الدول إنْ حكم الإخوان المسلمون مصر وتونس وتركيا وغيرها من البلدان، خاصة أنهم وصلوا إلى الحكم عبر الصناديق؟ وماذا قدّمت هذه الدول من تضحيات في تاريخها لقضية العرب الأساسيّة وهي القضيّة الفلسطينية والمسجد الأقصى؟ وماذا إذا أقامت الدول العربية علاقات مع إيران أو تركيا؟ ألم يكن الأولى أن تهتم هذه الدول بالداخل وببناء الإنسان، وحماية الحريات لشعوبها، ومكافحة الفساد المالي المستشري فيها؟!، ألم يكن الأولى بهذه الدول أن تصرف هذه المبالغ الطائلة لشعوبها في الداخل، ولتحقيق التنمية في الوطن العربي، بدلاً من أن تذهب سدىً  في المؤامرات والحروب الوهمية المفتعلة، وكذلك إلى الموازنة الأمريكية؟!

إنّ ما تفعله الدول الخليجية الآن وما تقدّمه من معلومات استخباراتية ضد بعضها البعض هو أشبه بكونها تذبح نفسها وتقدِّم السكين الحادة إلى الجزّار، وهذا ملفٌ سوف يُفتح فوراً عقب انتهاء الأزمة القطرية؛ فهذه الأزمة في الأساس مفتعلة لأنّ سيد البيت الأبيض هكذا أرادها، وهو الذي وفى بوعوده الانتخابية عندما أعلن عن خطة "الأموال الخليجية.. مقابل البقاء"، عندما قال: "لا تملكون غير المال ولا وجود لكم بدوننا"، وهذا ما يفعله الآن بأن يعقد صفقات بمليارات الدولارات مع السعودية، ثم يتم مقاطعة قطر، فإذا قطر تعقد صفقات مماثلة مع أمريكا وتوقِّع معها اتفاقيات ضد الإرهاب، مما حيّر الكلّ، ولكن دون اتعاظ؛ فترامب ماض في تحقيق خطته لابتزاز الدول الخليجية، والدليلُ ما نشرته الخارجية الأمريكية عما أسمته بتورط الإمارات في شراء الأسلحة من كوريا الشمالية بمئة مليون دولار وإرسالها لليمن، وأنّها - أي الإمارات - لم تقم بدورها لمواجهة الإرهاب، بعد أن أصبحت مركزًا ماليًا لغسل الأموال وتهريب الأسلحة، وكذلك اتهام أفرادٍ وجهاتٍ سعودية في تمويل الإرهاب حول العالم "وبعلم الدولة السعودية التي لم تقم بواجبها لمنع التطرف". ورغم أنّ التقرير كُتب عام 2016، إلا أنّ توقيت نشره الآن، يدخل ضمن خطة الابتزاز؛ هذا غير الخبر الذي نشرته  صحيفة "واشنطن بوست" نقلاً عن مسؤولين في المخابرات الأميركيّة من أنّ الإمارات تقف وراء اختراق وكالة الأنباء القطرية ومواقع حكومية أخرى، وهو ما أدّى إلى اندلاع أزمة الخليج الحالية.

تُلقي دول الخليج بنفسها الآن إلى التهلكة، وليس معلوماً هل هذه الدول تعي ذلك أم لا؟، والشعوب مغيَّبة تماماً، فما عليها إلا أن تتبع الأنظمة كالقطيع. إلا أنّ السيء في الموضوع كله، أن تتحوّل القضية من اختلاف الحكومات إلى تحميل الشعوب تكاليف تلك الخلافات، وكذلك انتقال العداوة إلى الشعوب؛ فما يقرأه الإنسان عن التراشق بين الشعوب الخليجية يندى له الجبين، إذ أصبحت مواقع التواصل الاجتماعي ساحات لمعارك سب وقذف وشتم بين الشعوب الخليجية، مما يعمِّق الأزمة مستقبلاً؛ وهو ما أشار إليه الشيخ تميم بن حمد أمير دولة قطر في كلمته المتلفزة يوم الجمعة 21 يوليو 2017، عندما قال: "آن الأوان لوقف تحميل الشعوب ثمن الخلافات السياسية بين الحكومات".

تشير قصة الضفدع والعقرب برمزيتها، إلى واقع الدول الخليجية بعد معركة نشر التسريبات. فيُحكى أنّ ضفدعًا كان يستعد لعبور النهر؛‏ وإذ به يجد عقربًا يطلب منه أن يساعده في العبور‏. فقال الضفدع: لماذا لا تعبر بمفردك؟ فأجابه العقرب: أنا لا أعرف العوم، ولكي أعبر النهر يجب أن تحملني فوق ظهرك حتى نصل سويًا. فقال الضفدع: ولكنك مشهور بأنك تلدغ كلَّ من تقابله، فهل يُعقل أن أسلمك ظهري وجسمي كله، وأين، في النهر؟! فلو لدغتني سأموت ونغرق معاً. فأجابه العقرب بثقة: لستُ غبيّا لأفعل ذلك، فحياتي بيدك! هنا اقتنع الضفدع ووافق أخيراً على مساعدته؛ وتسلق العقرب ظهر الضفدع وبدءا في العبور؛ ولكن في منتصف الطريق فوجئ الضفدع بالعقرب يغرس أرجله السامة في ظهره، فخارت قوى الضفدع، وبدأ الاثنان يغرقان تدريجيّا. وسأله الضفدع وهو يبكي: لماذا فعلتَ ذلك؟ ألم أقل لك إننا سنغرق معًا لو لدغتني، فأجابه العقرب: يا عزيزي أنا عقرب، وأنت تعرف ذلك، ولو لم ألدغك وأخدعك لما استحققتُ أن أكون عقربًا؛ فغرق الاثنان، فيما لم يستفد العقرب من غرقه، سوى إثبات أنّه عقرب.

لقد حدث الفجور في الخصومة، وتصرفت الدول الخليجية المُقاطِعة لقطر وكأنّ الأمر قد بلغ منتهاه، وأنّه لا التقاء بعد الآن مع الدوحة؛ وهذا بعيدٌ عن الدبلوماسية. والفجورُ في الخصومة وتدبيرُ المؤامرات صفةٌ خليجيةٌ أصيلة، كانت في الماضي لا تظهر في العلن كما ظهرت في الأزمة القطرية؛ فقد سقطت كلُّ الحواجز والخطوط الحُمر والقيم والأخلاق والتقاليد، لدرجة أنَّ من يقرأ صحف الدول الخليجية المقاطِعة الثلاث وعناوين صفحاتها الأولى يُصاب بحالةٍ من الغثيان شديدة. (ورغم بعض المآخذ على الإعلام القطري، إلا أنّه يُسَجَّل له أنّه لم ينزلق إلى حضيض الفبركات الكاذبة، أو الخوض في الأعراض والأنساب، كما فعل إعلام الدول المقاطِعة). وفي كلِّ الأحوال فإنّ هذه الدول قد وفَّرت لمخابرات الدول الغربية، كلَّ المستندات التي تدينها بدون أيِّ مقابل، وعليها أن تنتظر مزيداً من الابتزاز، فما تملكه هذه الدول من المبالغ في الصناديق السيادية يُسيل لعاب الكبار، في وقت نشاهد فيه عبر قنوات اليوتيوب شعوبًا خليجية تعيش في الأكواخ، وتقتات من التسوّل.

ستبقى التسريبات الخليجية خنجراً مسلطاً على رقاب هذه الدول، وهي أقرب ما تكون من قصة الضفدع والعقرب تمامًا، والكلُّ خاسر. وستوفر تلك التسريبات أرضية خصبة لمن يهتم بتاريخ المنطقة، بأن يؤرخ للدور المشبوه الذي قامت به هذه الدول في تشتيت المنطقة العربية لصالح الكيان الإسرائيلي، وبالتأكيد فإنّ التاريخ لن يرحم.