الأزمة القطريّة: إذا حلق جارك.. بلْ رأسك

زاهر المحروقي

أربعةُ عقود مضت، ونحن نتغنَّى إعلاميّا بالموقع الجغرافي الفريد لعُمان، وضرورةِ تنويع مصادر الدخل عوضاً عن النفط. ولا جدال طبعاً أنّ موقع عُمان يُعدُّ فعلاً رأسمالًا حقيقيّا لو تمّ استثماره الاستثمار الأمثل؛ فعبْرَ التاريخ حفظ هذا الموقع لعُمان كيانها واستقلاليتها؛ فبرع العمانيون في استغلال البحر ممّا جعل عُمان دولة فاعلة كانت دائماً في الصدارة وليست في الهامش، بسبب استثمار العمانيين للموقع الاستراتيجي، لقرب عُمان من مسارات الملاحة العالمية، في وقت لا تحتاج فيه إلى مضيق هرمز رغم إشرافها عليه، لأنها تطلّ على بحر عُمان والبحر العربي والمحيط الهندي، وهي بحد ذاتها ميزة لا تتوفر للأشقاء في الخليج، حيث أصابت بعضاً منهم "لعنةُ الجغرافيا".

الحديث عن هذا الموقع يجرُّنا إلى الحديث عن مدى استفادتنا منه في ظلِّ التحديات الكبيرة التي تواجه عُمان الآن، والتي ليست خافية على أحد سواء كان مواطناً عاديّاً أم جهات رسمية؛ فما ينشره المواطنون العمانيون في مواقع التواصل من القلق على مستقبل البلد، خيرُ دليل على ذلك، وهي ظاهرةٌ صحيةٌ تدل على وعي المواطنين بالمخاطر التي تحدق بعُمان، وأن توجسهم خيفة من المستقبل في محله. وإذا كان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قد أقسم ثلاثًا: "واللهِ لا يؤمن، واللهِ لا يؤمن، واللهِ لا يؤمن. قيل: من يا رسول الله؟ قال: الذي لا يأمن جاره بوائقه"، فهذا يؤكد أنّ الحذر من الجار – أيّاً كان - أصبح واجباً وطنيّاّ وقوميّاً وأمنيّاً واقتصاديّاً، وما حصل لقطر هو درس.

ترسم الصحافة العالمية ومواقع التواصل الاجتماعي صورة قاتمة ومخيفة للوضع الاقتصادي ولما ينتظر عُمان في المستقبل. وقد تكون هذه الصورة مبالغًا فيها، كما أنّها قد تكون مدفوعة الأجر من مدبري الفتنة وهم كثر، بهدف توجيه رسالة ما إلى الداخل العماني، ممّا يتطلب وجود خارطة طريق وطنية، وأن يكون المواطنون العمانيون على حذر؛ وفي الوقت ذاته ما أجمل أن تعمل الحكومة على إبعاد القلق من الناس باتخاذ خطوات عملية وجادة للاستفادة من الموقع الجغرافي المميَّز، بدلاً من الاعتماد على دولة جارة في الاستيراد منها، حتى ضروريات الحياة البسيطة؛ وكذلك ضرورة القضاء على الفساد والمحسوبية والبيروقراطية التي تسببت في ابتعاد الاستثمار عن عُمان. فمتى ما كان الاقتصاد قويّاً، فهو مؤشر على الاستقرار، وعكس ذلك فهو نذير شؤم.

ما كشفته مجلة "الإيكونوميست" البريطانية في تقرير لها، من "أنّ سلطنة عُمان تخشى من الغدر بها من قبل دول الخليج على غرار ما تمّ مع قطر"، فيه من الواقعية ما فيه، بغض النظر عن أنّ السلطنة تخشى ذلك فعلا أم لا؟ وبغض النظر أنّ هناك نوايا مبيتة ضد عُمان أم لا؟. فمواقف السلطنة المستقلة تتعارض مع مواقف الدول الخليجية في ملفات كثيرة؛ أضيف إليها الآن ملفٌ جديدٌ هو الملف القطري. وقد اعتبرت المجلة البريطانية أنّ أزمة قطر مع دول الخليج قد "تزيد الطين بلة؛ فمع تصاعد التوترات داخل المجلس، أصبح موقف عُمان معقداً؛ فالتوترات مع قطر تجعل العمانيين متوترين أيضاً". ولكن بالتأكيد فإنّ هذا ليس صحيحًا لأنّ عُمان اتخذت قرارها باستقلالية، كما فعلت ذلك في كلِّ الملفات، وهي مدركة بالتأكيد لنتائج القرار.

إزاء هذه المعطيات، طرح الكتَّاب العمانيون والمواطنون عبر مواقع التواصل نقاطاً كثيرة تتعلق بدرء الخطر عن عُمان وبالمستقبل. وكان أبرز سؤال طرح هو: ماذا نحن فاعلون؟! وفي الذهن مثل شعبي يقول: "إذا حُلق جارك.. بلْ رأسك"، وهو مثلٌ عادةً يُضرب لمن سيأتيه الدور. لذا حان الوقت لتحويل الشعارات إلى واقع حي وملموس يلمسه المواطن العادي. وأهمُّ نقطة في ذلك استقلال عُمان الاقتصادي؛ فلا يصح بعد نصف قرن من بداية النهضة أن تكون دبي هي عاصمة العمانيين الاقتصادية، يقصدونها في كلِّ شيء؛ فالإحصائياتُ تشير إلى أنّ عُمان تستورد منها ما قيمته 10 مليارات في السنة، وما تستورده عُمان لا يمكن الاستغناء عنه، لأنّ البلد تقوم عليه بأكملها، ويشمل ذلك الغذاء والماء والدواء والملبس وأدوات البناء وقطع غيار السيارات والمعدات، ومستلزمات البيوت كالستائر والفرش وغيرها. وحتى إذا لم يكن الشراء مباشراً من دبي، فإنّ ما يستورده المواطنون لاحتياجاتهم من دول العالم المختلفة، يتوقف في دبي أولاً ويأخذون حصتهم من الرسوم ثم سيُشحن إلى عُمان، وهذا ما صادفه المواطنون العمانيون الذين يشترون أدوات البناء من الصين كالسيراميك وغيرها. بل إنّ كلَّ الوكالات العالمية الكبيرة مكاتبها موجودة في دبي، والموجود في عُمان ليس إلا فرعاً بسيطاً لا يملك أن يبيع قطعة غيار إلا بعد إحضارها من دبي، وهذا بدوره سبّب غلاء فاحشاً، لدرجة أن يتم بيع قطعة غيار قيمتُها 4 ريالات عمانية بـ 70 ريالاً عمانيّاً، حسب بيان هيئة حماية المستهلك، والأمثلةُ في ذلك كثيرة. وقد وصل بنا الحال أن نستورد حتى اللبن والتمر؛ وهو ما أشار إليه الكاتب حمد بن سالم العلوي في مقال نشره في "الرؤية" تحت عنوان "علبة لبن تُظهر إنْ كنَّا في نمو وتطور" عدد 6/6/2017، تحدَّث فيه بأسى عن هذا الاستيراد، وعن إغلاق مصنعين للحليب والألبان في صُحار ومسقط، وكذلك عن إغلاق مركز التسويق الزراعي، وكانت له فروعٌ في معظم الولايات، تباع فيه منتجات زراعية عمانية، واختفاء مصنعيْ التمور في نزوى والرستاق.

والخلاصة أننا نحتاج الآن إلى التركيز على الزراعة والصناعات خاصة الغذائية، والتركيز على الاستيراد المباشر، فلدينا موانئ خارج مضيق هرمز. والدول المصدِّرة لمتطلباتنا قريبة جداً من عُمان مثل إيران وباكستان والهند ودول آسيا الأخرى، مع ضرورة تبسيط الإجراءات والابتعاد عن البيروقراطية القاتلة، فقد يفضِّل تاجر بسيط في صلالة مثلاً أن تنزل حاويته في دبي البعيدة لا في صلالة ولا في  صحار، لأنّ التخليص أسرع والرسوم أقل والإجراءات بسيطة. وإذا لم يتم اتخاذ الإجراءات الآن بالاستيراد المباشر وتبسيط الإجراءات واستغلال موقعنا الجغرافي وعلاقاتنا السياسية الطيبة، بعد كلِّ هذه الظروف التي مرت بالمنطقة، فلا يمكن أن ينصلح أمرنا أبداً. ويكفي ما أضعنا من الفرص منذ نهاية السبعينيات، فقد أضعنا كثيراً من الفرص، حسب رأي الكاتب مرتضى بن حسن علي، منها الغزو السوفييتي لأفغانستان؛ إذ أصبحت دبي هي الجهة المموِّلة لأفغانستان وللجيش السوفييتي معاً، وكذلك أضعنا الفرصة أثناء الحرب العراقية الإيرانية، وبعد ذلك الحصار على العراق لمدة 13 سنة، وكذلك الحرب الأمريكية لأفغانستان وما أعقبه من احتلال العراق؛ إلا أنَّ الأستاذ مرتضى – وهو رجل أعمال - لا يبدي تفاؤلاً، إذ يعتقد أنّه ليس لدينا الإمكانيات الإدارية أو التخطيطية ولا التنسيقية لكي نستفيد الآن كثيراً. وهناك كثيرون لا يبدون ذلك التفاؤل، ويرون أنّ الاستثمارات القطرية الجديدة في عُمان ستجد الكثير من العراقيل ومن ثم ستنفذ بجلدها.

ولكي نبتعد من التشاؤم، لا بد أن نعيد ترتيب البيت من الداخل الآن وليس غداً، ونحتاج إلى تقوية علاقاتنا الاستراتيجية ببعض الدول التي تمثل عوناً لنا في الملمات، مثلما كانت عوناً لنا يوماً ما. فمتى ما أخصلت النية وكان الهدف هو عُمان والشعب العماني، مع الابتعاد عن الأنانية والبحث عن المصلحة الشخصية، فإنّ عُمان بخير، فهي بلدٌ غنيٌّ بموارده وبموقعه الجغرافي، فقط يحتاج إلى عقول تعرف كيف تستغل الموقع المميز، وكذلك إلى الأمانة والإخلاص في التنفيذ، وعندها لن نخشى البوائق.