علاقة النُّخب بمؤسسات الدولة

علي المعشني

علاقة النُّخب بالسلطة التنفيذية ومُؤسَّسات الدولة في البلدان الغربية وعموم الدول الحيوية في العالم هي علاقة تكاملية عضوية لا غنى عنها، وبسببها نشأت دولهم قوية ومتماسكة وذات تنمية مثمرة ورؤى مستقبلية واضحة على مختلف الصُّعد.

فالنُّخب بصفة عامة هي قدرات علمية ومعرفية وفكرية مُتخصِّصة ومستقلة ولا يؤطر طرحها سوى مصلحة الوطن؛ حيث لا تقيدها بيروقراطية الدولة، ولا تنتمي لأي من اللوبيات ولا مراكز القوى إنْ وجدت؛ وبالتالي فهي متحرِّرة من أي ضغط أو قيد أو منفعة خاصة، وفوق كل هذا فهي تنطلق من رؤاها الخاصة وزادها المعرفي والفكري لتضفي لمساتها وأفكارها على ما تكلف به وتستشار لأجله وبتجرد تام.

في دول الغرب فطن الساسة ورجال صناعة القرار مُبكرًا لأهمية التعاون مع النُّخب المتخصصة والاهتداء بطرحها ورؤاها العميقة والمحايدة لتحقيق أعلى منسوب النجاح للقطاع أو المشروع الذي يراد تعزيزه ونجاحه وللتفكير خارج الصندوق، فجنت تلك البلاد الكثير من النجاحات والتنمية النموذجية، وتجنبت الكثير من العثرات والأخطاء.

ولم تكتفِ بعض تلك البلاد باستشارة النُّخب، بل تابعت أطروحاتهم ومؤلفاتهم ونتاجهم الفكري، وكلفت بعضهم بمناصب قيادية عليا في بلدانهم لتحقيق تلك الطروحات والأفكار وتطبيقها على أرض الواقع، وهيَّأت لهم كل الظروف والأسباب المادية والمعنوية والبشرية لتحقيقها على وجهها الأكمل والأمثل، ومن تلك الأمثلة الكثيرة: تكليف الإدارة الأمريكية للأكاديمي يزبينجو بريجنسكي بوظيفة مستشار للأمن القومي في عهد الرئيس جيمي كارتر ليقوم بتطبيق نظريته السياسية "الحروب الدينية" على أرض الواقع، والتي استفتح بها في حرب أفغانستان ضد الاتحاد السوفييتي عام 1979م، ثم توالى تطبيقها بداعش وأخواتها إلى يومنا هذا، مرورًا بالحرب العراقية-الإيرانية.

كَمَا كلفت الإدارة الأمريكية كذلك الأكاديمية كونداليزا رايس بوظيفة مستشار للأمن القومي ووزيرة للخارجية الأمريكية، بعد إصدارها كتابًا يتضمَّن خطة متكاملة لهزيمة الاتحاد السوفييتي وتفككه وانهياره.

وعلى الصعيد الأوروبي، فقد كَان الرئيسُ الفرنسيُّ فرانسوا ميتيران من أكثر الرؤساء الفرنسيين والأوروبيين في التعامل مع النُّخب الفرنسية من شتى صنوف المعرفة والاهتمامات، خاصة في القضايا المصيرية، وكان لا يُقْدِم على قرار مصيري لفرنسا إلا بعد إطلاعه على ومفاضلته مابين الطرح الرسمي المؤسسي والطرح الأكاديمي النخبوي؛ حيث كان في الغالب يرجح كفة الطرح النخبوي على الرسمي لعمقه وحياديته وشموليته. لهذا؛ اتسم عهد الرئيس ميتيران في الحكم بالعقلانية والسلمية والتوجه بقوة للشأن الداخلي الفرنسي، دون إخلال بمواقف فرنسا ومصالحها على الساحات الأوروبية والدولية.

وعلى صعيد آخر، فقد انفتحت النُّخب وتعاملت بجهد فائق مع أجهزة بلدانها الاستخباراتية وزودتها بالمعلومات التخصصية الأكاديمية والنظريات العلمية القابلة للتطبيق على الصعيد الاستخباري، بل ووهبت نفسها وتطوَّعت للقيام بأدوار العملاء لبلدانها في مهام عامة أو خاصة خدمة لأوطانها وما تقتضية مصالحها القومية.

وعلى رأس هؤلاء النُّخب هم الصحفيون والإعلاميون، والذين تُتيح لهم صفاتهم العملية التنقل بين البلدان وتغطية الأحداث ومتابعة القضايا العالمية عن كثب، خاصة فئة الكُتَّاب الصحفيين والمراسلين. أما المؤسسات الإعلامية في الغرب (صحف، مجلات، إذاعات، محطات تليفزيونية، مراكز بحوث)، فهي في المجمل العام طوع بنان أجهزة الاستخبارات ووزارات الخارجية في بلدانها، ورهن إشارتها لمخاطبة الرأي العام وتشكيله والتأثير به، والدفاع عن قضايا ومصالح أوطانهم وما يخدم أمنها القومي.

ولا يتوقَّف الأمرُ عند هؤلاء النُّخب، بل يمتد ليشمل موظفي الهيئات الإغاثية والأعمال الإنسانية كـ"أطباء بلا حدود" و"مراسلون بلا حدود" ومن في حكمهم؛ حيث يتم تجنيد البعض منهم لأجهزة استخبارات بلدانهم لرصد وتسليط الضوء على قضايا وملفات يصعب الوصول إليها في الظروف العادية.

أتذكَّر جيدًا ما قاله لي صديق صحفي منذ سنوات عن لقائه بصحفي غربي عمل مراسلًا لصحيفته لعقود طويلة في عدد من الأقطار العربية، ويتحدث العربية بطلاقة تامة وملم إلى حد كبير بالقضايا العربية بل والثقافة العربية عمومًا، وحين ناشده الصحفي العربي الصديق بتوظيف معرفته بالوطن العربي وقضاياه في تعريف الرأي العام الغربي وتبصيره بالحقيقة، قال له الصحفي الغربي: "معلوماتي وقناعاتي الشخصية لا علاقة لها بمهنتي ورسالتي تجاه بلدي وشعبي، فحينما أكتب مقالاتي أستحضر مصالح بلدي وعرقي وديانتي فقط".

أما في الاتحاد السوفيتي، فقد تفطَّن الزعيم يوسف ستالين إلى أهمية النُّخب في بلاده؛ فكانت عبارته الشهيرة المدوية لاستنهاض طاقات شعبه ضد الغزو النازي وبعد ثلاثة أعوام على حصار ستالينجراد الشهير من قبل الجيوش الألمانية؛ حيث قال مخاطبًا شعبه: "إنَّ بلد تشيكوفسكي وبوشكين وديستوفيسكي في خطر"، وبعد الانتصار وانقضاء الحرب وتوطد السلطة لستالين أصْدَر أمرًا بمنع سجن أي من النٌخب في الاتحاد السوفييتي من المعارضين للثورة ولنهج ستالين في الحكم، والاكتفاء بوضعهم قيد الإقامة الجبرية مع توفير كل أسباب الإنتاج الفكري لهم؛ كي يُسهموا في خدمة وطنهم، كلٌّ وفق قدراته الفكرية والثقافية والأكاديمية.. وبالشكر تدوم النعم.

------------------------

قبل اللقاء: "إذا تزاحمت العقول، ولد الصواب".. مثل موريتاني.

Ali95312606@gmail.com