حميد السعيدي
الحِكْمَة لا تُشْتَرى بالأسواق فهي ليست سلعة متوفرة، ولا تدرَّس بالفصول لأنها ليست كتابا يُقرأ؛ لذا فمن يمتلكها فهو القادر على التحكُّم في ذاته ومعالجة مشكلاته وقراءة مستقبله في زمن الفوضى، وكم حاجة العالم اليوم إليها، في زمن لم يعد آمناً نتيجة للخوف من المستقبل، ولم يعد هناك مكانةٌ للعهود والمواثيق، فكلها تتساقط أمام تضارب المصالح والسياسات، فكلُّ الأحداث تُدار وفقا لمصالح إستراتيجية واقتصادية وسياسية؛ لذا فنشر الفوضى في مناطق معينة من العالم تنطلق من خلال إستراتيجيات سياسية تعتمد على التنظير والتخطيط المبني على نظريات عدة؛ ومنها: نظرية الفوضى الخلاقة، التي تهدف لنشر الفوضى والصراعات في مناطق مختلفة؛ بهدف تحقيق أهداف معنية في منطقة ما، وهذه المنهجية تعتبر من أخطر الصراعات في عالم الحروب؛ لأنها لا تقوم على المواجهة الحقيقية، وإنما بالاعتماد على مؤسسات ودول وأفراد من جهات متعددة، وفي مناطق مختلفة تحدث الاضطرابات والصراعات والثورات، وهذا ما يحدث اليوم في منطقة الشرق الأوسط؛ الأمر الذي يعود بناءً إلى تصريح لوزيرة الخارجية الأميركية السابقة كونداليزا رايس في عام 2005م، مع جريدة واشنطن بوست الأميركية، عن نية الولايات المتحدة بنشر الديمقراطية بالعالم العربي والبدء بتشكيل ما يُعرف بـ"الشرق الأوسط الجديد"، فهل كان هذه التصريح بداية للتخطيط لأحداث الفوضى في هذه المنطقة؟
من يَقْرأ واقع منطقة الشرق الأوسط منذ 2011م، يجد حالة من الفوضى والصراعات والحروب التي لم تهدأ، بل سبَّبت خسائر بالمليارات الدولارات كان من الأجدى استغلالها في مجال التعليم والصحة والبنية الأساسية، ولكنها استغلت لدمار المدن وتشريد الشعوب، والقضاء على الأمن والاستقرار، وتغيير أنظمة الحكم، وسيادة الفوضى، وانتشار الطائفية، وبزوغ الصراعات الداخلية، وظهور الجماعات الإرهابية، وتحول الدول ذات السيادة إلى مناطق صراعات بين الجماعات، وما يقودنا للتفكير في وجود منهجية؛ لذلك أن تسلسل هذه الأحداث وشموليتها على معظم دول منطقة الشرق الأوسط؛ مما يعطي مُؤشرات على هشاشة الأنظمة السياسة، وضعف مقدرتها على معالجة مشكلاتها؛ مما جعلها تحت تأثيرات خارجية وداخلية أتت على كل شيء، خاصة بعد سيادة الهيمنة الأمريكية على العالم بعد سقوط الاتحاد السوفييتي وسيادة سياسة القطب الأوحد.
إنَّ حالة الاستقرار التي شهدها الوطن العربي لفترات مُتقطعة بعد زرع الكيان الصهيوني في فلسطين، والذي يأتي ضمن مخطط أكبر نحو جعل هذه المنطقة تعاني من الاضطرابات بصورة مستمرة، لا تتفق مع المصالح الغربية التي تهدف لجعل هذه المنطقة الغنية بالنفط تحت تحكم وسيطرة الغرب؛ لذا فإنَّ سُقوط العراق في بداية الألفة، كانت البداية لسقوط بقية الأنظمة العربية؛ سواء كان بالتدخل العسكري أو بإثارة النعرات الطائفية ونشر الفوضى والاضطرابات، وهذا ما حدث في بداية عام 2011م، ولكن ما يثير التعجب من ذلك، ورغم معرفة الجميع أنَّ الغرب لا يبتغي لهذه المنطقة التطور والاستقرار، كانوا هم يعدون الخطط وكان العرب المنفذين لها، وكأن قضية المناداة بالوحدة العربية لم تكن إلا على طاولة الجامعة العربية التي انتهت بسقوط بغداد.
واليوم، تتَّضح الصورة أكثر بظهور ما يُسمَّى بنظرية الفوضى الخلاقة وأهدافها التي أصبحت ماثلة أمام الرأي العام؛ حيث يُؤكد الكثير من الباحثين ومنهم "كوهين" أن الولايات المتحدة الأمريكية بسياستها القائمة على هذه النظرية، قد انتصرت في الحرب على الإسلام؛ لذا تعتبر الحرب على الإرهاب هي حرب عالمية رابعة، فهذا المصطلح مرتبط بالإسلام، وأصبحت الصورة العربية بالغرب تعني الدم والموت والقتل.
فالفوضى التي تحدث في منطقة الشرق الأوسط لم تقف عند أحداث اضطرابات في مناطق معينة، وإنما تعدى لقيادة بعض الدول لشن حروب على دول أخرى تحت مظلة محاربة الإرهاب، حيث لا مُنتصر في هذه الفوضى سوى الدمار والقتل والتشريد للشعوب الفقيرة؛ مما يُزيد من خلق الجماعات الإرهابية ويوفر لها البيئة المناسبة لنموها وانتشار، وربما ظهور جماعات "داعش" في شمال العراق وشرق سوريا إحدى نتائج ضعف الاستقرار وغياب سيادة الدولة؛ لذا أصبحتْ ميزانيات الدول تنفق في مجال شراء الأسلحة، ومن أجل القضاء على هذه الجماعات الإرهابية؛ مما يضعف من دورها في تحقيق النمو الاقتصادي والتطور العلمي، ويجعلها تحت سيطرة الشركات العالمية المنتجة للأسلحة.
الأمر الذي يقودنا لقراءة هذا الواقع والعودة للنهج السلطاني الذي صاغه جلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم في السياسة الخارجية، والذي يجب أن يدرس في الجامعات والكليات والمدارس، من أجل أن نتعلم ونعي معنى الحكمة في إدارة القضايا والأزمات، وكيفية بناء العلاقات الدولية، فقد انتهج جلالته مجموعة من الركائز الأساسية منذ توليه الحكم، انطلقت من منهجية بناء علاقات صداقة مع كل دول العالم، "أن سياستنا الخارجية تقوم على الخطوط العريضة الآتية: انتهاج سياسة حسن الجوار مع جيراننا وعدم التدخل في الشؤون الداخلية لآية دولة؛ وتدعيم علاقتنا مع الدول العربية وإقامة علاقات ودية مع دول العالم؛ والوقوف بجانب القضايا العربية في المجالات الدولية"، كما انتهج جلالته سياسة عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، والعمل على معالجة القضايا والخلافات، ونشارك في حل القضايا العادلة، حيث خاطب جلالة العالم عام "إنَّ سياستنا الخارجية معلومة للجميع، فنحن دائما إلى جانب الحق والعدالة والصداقة والسلام، وندعو إلى التعايش السلمي بين الأمم وإلى التفاهم بين الحضارات"؛ الأمر الذي انعكس على السياسة العُمانية الخارجية والتزامها بمبدأ الحيادية في التعاطي مع القضايا الدولية؛ لذا يأتي تصريح وزير الدفاع البريطاني مثمناً لهذه الجهود "السلطنة صانعة للسلام".
Hm.alsaidi2@gmail.com