د سيف المعمري
الحياة الاقتصادية في كثير من دول العالم لا تخشى شيء إلا التنظيم والقوانين لأنّها تضيّق على الاقتصاد وتقلل من الأرباح وتحمل أرباب العمل أعباء دفع أجور كثيرة، وتحد من الاحتكار وتقليد السلع وغش المستهلكين ولذلك تكون الإصلاحات في الحياة الاقتصادية محدودة، وغالبا لا تكون القوانين صارمة ولا في صالح المستهلكين، ولا ضد الفساد، ولذا نُشر في السنوات الأخيرة كثير من قضايا وتجاوزات واحتكارات وإساءة توظيف مناقصات وتحايل وعلاقات شبكية لدرجة ظنّ البعض أنّهم يعيشون في عش دبابير لا في حياة اقتصادية يفترض أن تحكمها القوانين والمعاهدات والاتفاقيات، السؤال الذي أود طرحه هل هناك علاقة طرديّة بين الفساد وازدهار الاقتصاد؟ بصيغة أخرى هل تعيق الفضيلة الازدهار الاقتصادي؟
هذا سؤال ربما يراه البعض منطقيا في حين يراه البعض الآخر بخلاف ذلك، ولكن طرحه في ظل أزمات الاقتصاد التي تمر بها المنطقة نتيجة تراجع أسعار النفط وتأثيرها في الاقتصاد ضرورياً، لأنّ كثيرين اليوم يرون أنّ تحقيق انتعاش اقتصادي وأمن سياسي واجتماعي يتطلب تطهير الحياة الاقتصادية من كل ما تعاني منه من ظواهر سلبية، حيث تبدو ظاهرياً بأنّها سليمة ومعافاة ولكنّها في باطنها تعاني كما يصرخ كثيرون من عدم التنظيم، وأي المحسوبيات، والفساد، والرشاوي، والعمالة غير الشرعية، والغش، هل سيقود معالجة هذه الظواهر إلى تحقيق نمو اقتصادي كما يرى البعض أم أنّه سيقود إلى خلاف ذلك لأنّ الحياة الاقتصادية لا يمكن أن تعمل بشكل جيّد بدون هذه المرونة التي تتيح للجميع الاستفادة من المواطن العادي إلى المستثمر الكبير، من صاحب العمل إلى العامل القادم للعمل، وبالتالي تصبح هذه البيئة لا غنى عنها لكي يكسب الجميع، ويستفيدون، وأرى أنّ كثيرين رغم مطالباتهم بتنظيف الحياة الاقتصادية يؤمنون أنّ مصلحتهم في هذه الفوضى، هذا الاعتقاد أعاق تطبيق كثير من المطالب الاقتصادية مثل الجمعيّات التعاونيّة، والتعمين في المؤسسات الخاصة، وكذلك تقليل الضغط على العمالة الهاربة بل وتشغيلها في شركات كبرى أحيانا لديها مناقصات في وزارات حكومية، لأنّها تشارك بدور كبير في تحريك الدورة الاقتصادية، ما الذي سيحدث لو تمّت معالجة هذه الملفات وجعلت التشريعات الاقتصادية أكثر صرامة؟ رُبما يرى من يعتقدون في هذا التوجه أنّ الاقتصاد سيتضرر بشكل كبير، وهو ما يدعمه بعض المنظرين الاقتصاديين مثل برنارد ماندفيل.
برنارد ماندفيل وهو مفكر اقتصادي هولندي الأصل عاش في القرن الثامن عشر في إنجلترا، وهو الأب الروحي والمروج التنظيري لما أطلق عليه البعض لاحقا الفساد الاقتصادي، يرى هذا المفكر -الذي يبدو أنّ لديه تلاميذ كثر لا يعلمون أنّه هو أستاذهم- أنّ الاقتصاد لكي يزدهر لابد من التشريع للفساد فيه، وبقدر وجود فرص للفساد والسلوكيات السلبية بقدر ما ينمو الاقتصاد وتزدهر، وقد اشتهر هذا المؤلف بكتاب اقتصادي مهم بث هذه الأفكار وهو "أسطورة النحل"، نشر في عام 1714م وآثار به جدلا كبيرا، وكان أساسه قصيدة نشرها في عام 1705م بعنوان (Grumbling Hive) أي "الخلية المتذمرة" وهي كانت عن مملكة النحل التي كانت تعمل بشكل جيد لكن مشكلتها أنّ بها مجموعة فاسدين، حيث كان الأطباء ينصبون على المرضى، والجنود يفترون زورا على العاملات، وبدأ عدد اللصوص يزداد، وبدأ يظهر الكذب والغش، ولذا قررت العاملات أن تعمل احتاجًا كبيرًا من أجل تطهير الخلية من كل الفاسدين، وكانت تحكم المملكة ملكة اعتادت أن تنصت لصوت العاملات بجدية، وترى أنّ ذلك يحقق للمملكة الأمان والاستقرار، وبالتالي تمّ نفي النحل الفاسد وقتل بعضه، ولم يبقى في المملكة إلا النحل الأمين، وتطهرت المملكة ولكن كان ذلك سبب في انهيارها، وعاشت آخر نحلات في شجرة فارغة حيث أصبح يمر عليها نحل ممالك أخرى ويتحسرون على الحال الذي وصلت إليه مملكتهم، فهمت هذه القصيدة بأنّها تبرير للجرائم غير الأخلاقيّة ولذا كتب برنارد كتاب أسطورة النحل (The fable of the bees) يوضح الفكرة بصورة أكبر، ويؤكد فيه أنّ رخاء الخلية أو أي مجتمع راجع إلى رذائل أفرادها وجشعهم وأنانيتهم.
وضع برنارد في أسطورة النحل كثيرا من المبادئ الاقتصادية التي استفاد منها وطورها بعد سبعين عاما الفيلسوف آدم سميث، وما يعنينا هو رؤيته التي يرى فيه وجود علاقة عكسيّة بين الازدهار الاقتصادي والفضائل الأخلاقية، فهذه الفضائل تعطل التقدم الحضاري، وهو يرى أنّ الأنانيّة الفردية التي يبديها البعض تقود بطريقة أو أخرى إلى نمو وتوسع الاقتصاد، وهو يرى أيضا أنّ تقسيم العمل بحيث يتعلم كل شخص عملا اقتصاديا على الدوام حتى يتقنه ويصبح ماهرا فيه أيضا يفيد الحياة الاقتصادية وبالتالي إن تخصص رجل أعمال في استيراد الأرز واتقن ذلك وتمكن من الانفراد بالسوق لوحده لا ينبغي أن يعد ذلك احتكارًا وضررًا بالحياة الاقتصادية بل بالعكس ذلك مفيد لأنّ الآخرين سينفردون بمجالات أخرى وسيؤدي الصراع بين الجميع من أجل تحقيق أقصى قدر من المنفعة إلى ديناميكية في الاقتصاد.
هل بعد ثلاثة قرون لا تزال أطروحة برنارد ماندفيل قائمة حول التأثير السلبي للأخلاق في الاقتصاد؟ وهو ما يجعل حكومات لا تأخذ أيّة خطوات لمحاربته، لأنّها تخشى من التأثيرات السلبية لوجود بيئة اقتصادية نظيفة، وهي ربما تقلل من حجم الأرباح والفوائد وتقود إلى غياب المعاملات المشبوهة على كافة المستويات؟ ما الذي تخسره الحياة الاقتصادية لو قائمة على غير مبادئ ماندفيل؟ وما الذي تكسبه من قيامها على مبادئ هذا المفكر؟ مثل هذه الأسئلة سوف تتباين أجابتها تبعا للأشخاص الذين تطرح عليهم، فلو طرحت على وكيل كبير يحتكر السوق أو على رجل أعمال زور تواريخ انتهاء سلع غذائية ربما سيعمل على بث قلق كبير من مغبّة السعي لجعل الفضيلة الحصان الذي يقود قاطرة الاقتصاد، ولو طرحت على سياسي له نشاط في السوق سيقول أنّها ستربك البلد وربما تقوّض استقراره، ولو طلب من رئيس صحيفة تستفيد من الشركات الاقتصادية إعلانيا أن ينشر عن تأثير الفساد على الاقتصاد سيقول أنّ ذلك سيؤدي إلى عدم ثقة المستثمرين في السوق، لو طلب من دولة أن تطرد من أراضيها كل من يثبت فساده في معاملات اقتصادية مشبوهة أو كل من يغش ربما تقول إنّ ذلك سوف يضعف اقتصادها لأنّ مثل هؤلاء لديهم قدرة على فهم السوق وكيف يُدار، وأنّ مجرد وجود أشخاص أمناء ليس عاملا قويًا لقيام اقتصاد نام ومزدهر، ولو وجدت جامعات وكليات ومدارس ومستشفيات، وبنوك، ووكالات سيّارات، وأصحاب عمارات، ومقاولين، لا يتحايلون أو يغشون أو يبالغون في الأرباح كيف يمكن أن تستمر مثل هذه المؤسسات وتقدم وظائف لعدد من أبناء المجتمع، الذين لا يهمهم إن كانت لا تهتم بالمبادئ الأخلاقية أهميّة إنّما يهمهم أن توفر لهم وظائف وخدمات يحتاجونها، وبالتالي يبرز مبدأ الاستمرارية مقابل التضحية بالمبادئ والقواعد الأخلاقية.
البعض مع برنارد يقول اقتصاد مزدهر بدون أخلاق، أم اقتصاد راكد بالأخلاق، هذان مساران على المجتمعات أن تختار بينهما، الفساد الاقتصادي يوجد للجميع فرصا ليحققوا أهدافهم، وبدون استغلال البعض لظروف البعض الآخر لن يتحرك الاقتصاد، ولن يتحرك أحد، ووجود بعض الفساد والمفسدين في الحياة الاقتصادية ربما يكون أمر صحياً لا يدرك حقيقته إلا الذين يعملون بالاقتصاد، ولكن البعض لهم رأي آخر، ولكن لا مجال لطرح هذا الرأي خاصة وأن تلامذة برنارد قد يُكفرِّون أي رأي آخر غير رأي أستاذهم الذي ينام سعيدا في قبره بعد هذه القرون.