"وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا"

عمَّار الغزالي

 

قَبْل سنواتٍ طوال كانتْ ساعة النوم تحلُّ بعد صلاة العشاء؛ وكان السَّهر مُهمَّةً شاقَّة وَصَعبةً آنذاك، سِوَى على مريضٍ أنهكه الألم، أو قائمٍ يُصلِّي في مِحْرابه، أو مُرابطٍ على حدودِ وطنه، أو عاشقٍ بلغ الوله منه مُنتهاه، إلى أنْ بدأتْ الحال تتبدَّل شيئًا فشيئًا وفق إيقاع الحياة المتسارعة، وانقلبتْ الساعة البيولوجية لدى الكثيرين، وأضْحَى تحمُّل وَيْلَات السَّهر ومشقته عادة مُتأصِّلة في النفوس.. فـ"الثانية عشرة صباحًا" لم تعُد سوى تَوْقيتٍ لبداية سَهْرَةِ ليلٍ طويلٍ، وإيذانٍ بميلاد ظاهرةٍ جديدة يُطلَق عليها "المواصلة" (مُواصلة الليل بالنهار) والتي يُفاخِر بها الشباب والفتيات اليوم، ممَّن لا يرون فيها مُشكلةً تستحق أن تؤرِّقهم.

إنَّ حالًا كهذه تستحقُّ أن تكون مادةَ بحثٍ وتقصٍّ؛ خصوصا وأنها تتضاد مع حكمة الله في خَلْقِه، والتي اقتضتْ أنْ يكون النهار وقتاً للمعاش والليل للسُّكون والسُّبات؛ مِصْدَاقًا لقوله تعالى: "وَجَعَلْنَا نَوْمَكُم سُبَاتًا وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعَاشًا"، وقوله: "هُوَ الَّذِي جَعَل لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوْا فِيْهِ والنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُوْنَ"، ومن دون شكٍّ فهو سبحانه أعلم بما يُصلح خَلْقَه "أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيْفُ الخَبِيْر". حتى مَوْرُوثاتنا حافلة بعديد المواقف والأقوال التي تذمُّ السَّهر "غير ذي الحاجة لعمل أو عبادة"، وتكثُر فيها مواضع الحثِّ على البكور، والاستيقاظ المبكر لبدء اليوم بنشاط وحيوية واستثمار بركة أوله لتحقيق مزيدٍ من الإنجاز، اقتداءً بقول نبيِّنا الكريم: "بُوْرِك لأمَّتِي في بُكُورها".

واليوم، وَبَعْد هديٍّ سماوي لم يوضَع نُصب الأعين، وإرشاد أسلاف لم يُقرأ جيدًا، بدأت تَخْرُج علينا مراكز الأبحاث ودراسات الجامعات من كلِّ حدب وصَوْب -وبكميات مهولة- مُعدِّدة ومفنِّدة مضار السهر: بدنيًّا ونفسيًّا، بل واقتصاديًّا واجتماعيًّا وأمنيًّا؛ مَضَار بعضُها فَوْق بعض، وبعضها مُسبِّب للآخر، فيُحْرَم الإنسان دون أن يشعر من السرور، ويُوْرَث الهم والاكتئاب وضيق النفس، والقلق، وفقدان الشعور بالسكينة والراحة، بسبب الإرباك والإرهاق النفسي والعقلي والإدراكي؛ فالسهر الشديد والإكثار من نوم النهار يُدمِّر خلايا الدماغ؛ وهو ما يُفسر حال كثير من شبابنا اليوم بضعف قدرتهم على التركيز والتذكر والاستذكار.

قد يكُوْن الغالبُ منا -بل وممَّن أدَّمنوا السهر أنفسهم- على دِرَاية بكثيرٍ من هذه الدراسات ونتائجها، فلماذا إذن يسهرون؟! إنَّ مُعظم حالات السهر تُقضى اليوم في القيل والقال وكثرة المقال، تَضِيْع الأعمار سُدى أمام شاشات التلفاز والهواتف والأجهزة اللوحية المختلفة، أو على مقاعد المقاهي هُنا وهناك، تضيع في "اللا شيء". وهي بالمناسبة فُرصة ونحن بفترة الإجازة الصيفية لأبنائنا الطلاب أن نُذكِّر الآباء بأمانة تربية أبنائهم، إذ يزيد السهر خلال هذه الأيام، اسألوهم: أين يسهرون؟ وفي أي شيء يقضون أوقات سهرهم؟ وكونوا قريبين منهم لتوجِّهوهم، وتعلِّموهم، وكونوا قدوة ليقتدوا بكم؛ فثمرة ما تزرعونه تجدونه في كلِّ شيء حَوْلَكم فـ"كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته".

... إنَّ عبارة "يَوْمُك مثل جملك، إن أمسكت أوَّله تبعك آخره" هي توضيح بليغ لسُنَّة البكور وعدم السَّهر. وإن كانت بضدِّها تتمايز الأشياء؛ فإنَّ كانت الدلائل بائنة على أضرار لا تُحصى للسهر، فإنَّ قرائن عدَّة تُبرز عوائد النفع من النوم المبكر للاستيقاظ أوَّل النهار؛ ففضلاً عن النَّفع الصحي والنشاط البدني والذهني والعقلي الذي يحصله الواحد منا، تبقى "بركة أول النهار" أمَّ الفوائد.. فلو افترضنا أنَّ بداية الإعداد للخروج إلى الدَّوامات تبدأ بعد طلوع الفجر في مُدَّة أقصاها ساعة ونصف الساعة، وقام أحدنا لأداء صلاته حاضرًا، وامتثل المنهج النبوي بالذكر والقرآن حتى الشروق، كُتب له أجر حجة وعمرة "تامَّة تامَّة تامَّة".. كما أن البكور سيُساعد على تنظيم برنامج الأسرة؛ حيث إنَّ التبكير من الجميع سيسمح لأفراد الأسرة من رؤية بعضهم البعض، في زمنٍ قرَّبت فيه وسائل التواصل الاجتماعي البعيد وأبعَدت القريب، واقتصاديًّا: ستزيد معدَّلات الإنتاج وجودته؛ حيث سيكون العامل في أوج نشاطه، كما سيُقْضَى على حالات التأخير عن الدوام بسبب السهر، وما يرافق ذلك بالطبع من تبعات تتسبَّب في تأخُّر إتمام المعاملات وقلة الإنتاج، وغيرها من سلبيات نراها اليوم في بيئة العمل جهارًا نهارًا.

لَقد فَرضَت حاجتنا الماسَّة اليوم لحلول إبداعية تزيد طاقاتنا الإنتاجية، وتعجِّل وتيرة تنفيذ الخطط حسب المستجدَّات، أن ينصبَّ الجَهْد في المقابل على تغيير أنماطنا المجتمعية -بل والشخصية- التي قد تُضعف هذا الحِراك الواسع لإنفاذ برامج التنمية على أرض الواقع؛ وآفة السَّهر تفوِّت علينا وعلى وَطَنِنا ومجتمعنا الكثير والكثير، وما لم نُدركها فستحرمنا من إمكانات أجيال مُتعاقبة من الشباب تُهدَر طاقاتهم فيما لا طائل من ورائه.. وإذا كانت الأمم المتقدِّمة تنام مبكراً، مُستفيدةً من هذه السُّنة الكونية؛ فمن باب أوْلَى لخيرِ أمَّة أن تُحيي هذه السُّنة المبارَكة، وأن تتبع النهج النبوي العظيم.. أسألُ الله تعالى أن يُوفِّقنا لذلك، وأن يهدينا سبيل الرَّشاد.

ammaralghazali@hotmail.com