علي المعشني
حين يُبتلى وطن ما بنكبة من النكبات التي لا تخلو منها دول الأيام وسنن التاريخ كالاحتلال أو الحروب الخارجية أو الداخلية، تُختبر مناسيب المواطنة وحجم الرضا عن الوطن ومدى التناغم ما بين الوطن وأبنائه، وبقدر عمق الوعي بفلسفة الوطن ومفهومه تتفاوت التضحيات بين أبنائه ومقدار الجميل الذي سيرده كل منهم لوطنه في محنته وابتلائه.
ففي الاحتلالات مثلًا، ينقسم أبناء الوطن إلى فئات وشرائح غير مألوفة ولم تكن موجودة من قبل، بل خلقها الظرف التاريخي وأوجدها. حيث نجد فئة من الشعب تتقبل الاحتلال بصمت وبلا مبالاة، وفئة ثانية تتقبله بصمت وامتعاض، وفئة ثالثة تعتبره ابتلاء وقضاء وقدرا، وفئة رابعة تروج للمحتل وقوته وبطشه وتحبط الهمم وتثبطها وتحذر من مقاومته، وفئة خامسة تخون الوطن وتتعاون مع المحتل وتعرض خدماتها عليه وتعتبر نفسها جزءًا من الاحتلال وثقافته وأدواته وأساليبه، وفئة سادسة تشحذ الهمم وتنشر الوعي بين الناس وفي أوساط الشعب بأهمية رفض المحتل ومقاومته وعدم الاستسلام والقبول بالأمر الواقع ويتوقف دورها عند ذلك، وفئة سابعة تقاوم المحتل بالفكر والثقافة والقلم والفن، وفئة ثامنة توهب أرواحها وتحمل السلاح ليعيش الوطن وتسترد حريته وكرامته وعزته وكبرياءه.
الفئة المقاومة للمحتل بالسلاح في الغالب الأعم لا تشكل أكثر من 5% من أي شعب محتل، ولكنها تستمد قوتها وطاقتها في الغالب من القوى الوطنية الرديفة لها كفئة المثقفين والكتاب والفنانين والعلماء والذين يشكلون خط دفاع تحصيني هام للغاية عن ذاكرة الوطن والعقل الجمعي لأبنائه، حيث يشكل الوطنيون من هؤلاء ضمير الوطن هذا الضمير الذي يوازي ويساند قوة الوطن والمتمثلة في المقاومة المسلحة.
تشكل الفئة السادسة من الشعب ما يمكن أن نسميه بالطابور الخامس حيث تشكل رديفا هاما وضروريا لفئتي المقاومة الفكرية والمسلحة وتساهم في نقل الأخبار والمواقع والمنشورات الوطنية بين الناس، وتتسع هذه الفئة بقدر ما تحققه المقاومة الفكرية والمسلحة من انتصارات على العدو في المحافل وفي ميدان المعركة.
لو قرأنا وتمعنا في أي ثورة أو مقاومة عبر سلسلة التاريخ وحلقاته فسنجد بجلاء كل الفئات المشار إليها موجودة وماثلة ومؤثرة. ولنا في قضيّة فلسطين وما سُمي بالربيع العربي مثالان مٌعاشان شاخصان وجليان.
من وهبوا حياتهم وأرواحهم للوطن هم من اعتبروا الوطن شرف وعرض وكرامة وهم من اعتبروا إهانة الوطن إهانة لهم، وهم من اعتبروا الوطن عديلا للروح في عقيدتهم الحياتية وهم في الغالب الأعم أناس مختلفون ومتفاوتون في تحصيلهم العلمي أو مكانتهم الاجتماعية أو أعمارهم ولكنّهم متفقون إلى حد التطابق في نظرتهم المقدسة للوطن، هؤلاء هم أشباه الوطن وهم الأوطان الناطقة وأرواحهم توائم لتراب الوطن.
هؤلاء لهم فلسفات ونظرات عميقة للوطن بمفرداته ومكوناته وتضاريسه وتاريخه وحريته وكرامته لا نجد تعريفات لها في بطون الكتب، فتعريفات الوطن والوطنية وكرامة الوطن وشرفه لها مدلول واحد فقط لديهم وهو الحياة بمفهومها الواسع فإذا فقدوا الوطن فقدوا الحياة وأصبحت أرواحهم لا تساوي ذرة تراب من أرض الوطن.
أمّا بقية المنتمين للفئات الأخرى فكل له فلسفته ونظرته وقناعته تجاه الوطن، فمنهم من يعتبره مأوى ومنهم من يعتبره مصدر رزق ومنهم من يعتبره قطعة تراب وحجر أصم يمكن تعويضه واستبداله ولا يستحق منهم ذرة عرق ولا قطرة دم ولا لحظ تفكر للتضحية من أجله.
الكارثة أننا لا نشعر بقيمة الوطن إلا حين نفقده، فالإنسان جُبل على السعي لتحقيق ما يفتقده وينقصه وليس الحفاظ على ما يمتلكه، وما بين السعي لتحقيق المفقود والتنكر للمكتسب وتناسي الموجود قد يفقد الإنسان الاثنان معًا.
الوطن ليس قصيدة تقال ولا أغنية تٌغنى ولا خاطرة في ليلة مقمرة ولا لباسا وأزياء وتقاليد متوارثة، الوطن عديل الروح والمال والبنون والشرف والكرامة ولا يفهم هذه المعادلة إلا الراسخون في الوطنية. فالمواطن هو إنسان بداخل وطن كالمقيم تمامًا، أمّا الوطني فهو إنسان بداخله وطن، يتألم لألمه ويمرض لمرضه ويحزن لحزنه ويفرح لفرحه فالوطن بالنسبة له هو كل مفردات حياته بل كل حياته، فالوطني عطاؤه مزلزل ومجلجل بقدر سخاء الوطن وصمته الأزلي المُطبق.
قبل اللقاء: كم هو جميل أن نموت من أجل الوطن، وكم هو أجمل أن نعيش لأجله.
وبالشكر تدوم النعم..