"اللوبيات".. وصناعة القرار الأمريكي

حاتم الطائي

يَبْقَى استمرارُ وَقْع الصَّدْمة على الشارع العربي - والخليجي على وَجْه الخصوص- من تمرير الكونجرس الأمريكي "قانون جاستا" الذي يُحمِّل بعضَ دول المنطقة مسؤولية أحداث 11 سبتمبر، دليلًا على أننا لم نستوعب جيداً بَعْد كيُف يُصْنَع القرار الأمريكي، وما الذي يدور داخل المطبخ السياسي هُناك في أقصى بُقعة من الشمال الغربي للعالم، رَغْم ثَرَوَات وعَلَاقات وسِيَاسات عَربية وشرق أوسطيَّة داعمة لبراجماتية واشنطن، وتنسيقات على مُستويات عُليا: سياسيًّا، وعسكريا، واقتصاديًّا، بل ومخابراتيا، إلا أنَّ كلَّ ذلك لم يكُن له تأثيرٌ على أرض الواقع في وقف تمرير قانون كهذا.. إنَّها مشكلتنا دومًا عدم وُجود رُؤى محدَّدة وآلية واضحة لاستثمار الإمكانات والفرص لتشكيل قوى ضغط مُماثلة تنافس مثيلاتها في عَالمٍ تحكُمُه المصالح، وتصوغ سياساته "لوبيات" لا تَرَى سوى أهدافها.

فمُنذ أنْ وَضَعَتْ الحربُ العالميَّة الثانية أوْزَارَها، وحتي اليوم، وسياسات الإدارات الأمريكية المتعاقِبَة ضالعة في العديد من الكوارثِ الإستراتيجيَّة والعسكريَّة التي تحلُّ بمنطقتنا، بفعلِ نظامٍ سياسيٍّ مفتوحٍ يَسْمَح بدَوْر كبير لجماعات الضغط "اللوبيات" كوسيط بين أصحاب المصالح والنُّخب في قَلْب عاصمةِ القرار العالمي واشنطن؛ حيث تنتشر مكاتبها بالآلاف لتتولَّى العمل من أجل ترويج الأفكار والطروحات الضاغطة لكافة القطاعات، من سياسة وسلاح وحروب، إلى اقتصادٍ وسياسات مالية تُضعف دولاً وتُعْلِي كعب أسواقٍ أخرى.. جماعات غير رسمية يُنشئها أصحاب أموال أو قوى ومجموعات أخرى ذات قدرة على الحثِّ والتأثير، لها أهداف ومصالح بعيدة المدى، تسعى لتحقيقها عن طريق مُمارسات مُنظَّمة ومُمنهجة للضغط على صُنَّاع القرار.

وعلى الرغم من أنَّ "اللوبي" كمصطلح سياسي، يُعدُّ من أركان الشورية والديمقراطية - في البيئات السياسية المتقدمة - حاله حال الأحزاب ومُؤسسات المجتمع الديمقراطي، كهمزة وصل بَيْن المُؤسَّسات المدنية التي تُمثِّل الشعب من جهة، والحكومة والبرلمان من جهة أخرى؛ إلا أنَّ الأمر في الولايات المتحدة يتخطَّى حواجز الديمقراطية بمسافات، إلى أدوات ضغط تُمارسها مجموعات وأطراف مُعيَّنة، للحصول على مآرب وأهداف تخدم مصالحها السياسية بالدرجة الأولى، ومصالح أخرى تتفرَّع عنها، مُستخدمة في ذلك نفوذها وشبكات علاقاتها، بالدَّعم أحيانًا، أو الابتزاز وفتح خزائن الفضائح أحايين أخرى، كما حدث -مثالا وليس حصرًا- في فضيحة الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون وعلاقته بموظفة البيت الأبيض مونيكا لوينسكي، في تسعينيات القرن الماضي، للضغط على إدارته الديمقراطية لتكفَّ ضغوطها عن إسرائيل بشأن مفاوضات السلام مع السلطة الفلسطينية تحت قيادة الرئيس الراحل ياسر عرفات آنذاك.

إنَّ سلطات الرئيس الأمريكي المُحدَّدة بنفوذ لا يتجاوز 10%، وسلطة الكونجرس - بغرفتيه: الشيوخ، والنواب- أفسحتْ المجال واسعًا أمام تمدُّد اللوبيات في الداخل الأمريكي، الذي بات يحتضن عددًا مُبالغًا في ضَخَامته من اللوبيات وقوى الضغط؛ أشهرها على الإطلاق (سياسيًّا): اللوبي الصهيوني الذي تمثله اللجنة الإسرائيلية الأمريكية للشؤون العامة واختصارها "أيباك"، و(اقتصاديًّا): لوبي التعدين، ولوبي البترول، ولوبي تجارة السلاح، ولوبي وول ستريت، ولوبي التكنولوجيا "وادي السيلكون".. ولَكَم اتَّضَحَتْ على مَدَى سنوات عديدة قوَّة هذه اللوبيات مُجتمعة في التأثير على الكونجرس الأمريكي وتعاطيه مع كثير - ما لم يكن كل- قضايا الشرق الأوسط وعلى رأسها قضية الاحتلال الإسرائيلي؛ حيث استطاع اللوبي الصهيوني -وعلى مدار عقود- مُحاربة أعضاء الكونجرس الذين حاولوا الوقوف إلى جانب الحقِّ العربي، واتهموا أعضاءه المناصرين للحق الفلسطيني بـ"معاداة السامية، ومناهضة إسرائيل"، ونجح أعضاء هذا اللوبي في إبعاد المشرِّعين الأمريكيين عن زيارة البلدان العربية، وكذلك مناضلة أعضائه المستميتة لتشكيل مفاهيم وآراء العامة بشأن إسرائيل والشرق الأوسط؛ مُستغلين في ذلك الإعلام، وبيوت الخبرة، والأوساط الأكاديمية؛ لقدرتها بالغة الأهمية على صياغة الرأي العام.

النفوذُ الصهيوني في صناعة القرار الأمريكي مُتجذِّر لأبعد الحدود؛ فمنذ العام 1951م الذي تأسَّست فيه اللجنة الإسرائيلية الأمريكية للشؤون العامة "أيباك"، تحوَّلت تمامًا دفَّة التعامل الأمريكي إلى صالح الاحتلال وتثبيت أقدامه ودعمه أكثر من أي وقت مضى ليس فيما يخص القضية الفلسطينية وحسب، بل كَكِيَان شيطاني ترعاه واشنطن بالحماية والرعاية، ومارست "أيباك" تأثيراتها من خلال وسائل مباشرة وأخرى غيرها؛ حيث تقوم بإجراء اتصالات واجتماعات مع كبار المسؤولين الأمريكيين، بمن فيهم الرئيس الأمريكي وأعضاء مجلس الكونجرس والشيوخ وكبار موظفي الخارجية، لتلميع هذا الكيان؛ من خلال أجهزة الإعلام والصحافة، والندوات والرسائل، وحملات الدعاية المكثَّفة لحشد الرأي العام الأمريكي. ولا يُنسى في سياقٍ كهذا الحملة الشرسة التي شنتها "أيباك" في العام 1977 ضد البيان السوفييتي-الأمريكي الخاص بالوضع في الشرق الأوسط؛ حيث وخلال 36 ساعة فقط، تمَّ جمع توقيعات 130 عضوًا من الكونجرس يستنكرون ما تضمنه البيان المشترك، كدليل على نفوذ غير عادي للوبيات متسلِّطة ونافذة إلى عُمق صناعة القرار في إحدى كبريات الدول العظمى.

ومقابل هذا النفوذ اللوبي، يَتَوارى عن الأنظار أيُّ دَوْر أو تأثير لقوى الضَّغط التي يُؤسِّسها المواطنون الأمريكيون العرب هُناك؛ أو حتى القوى العربية في الشرق الأوسط، فتجدها لوبيات مُتهالكة غير مُؤثرة، تعكس غياباً في التنسيق وتُبرز حجم الخلاف العربي- العربي حتى في تكوين كيانات تحرِّك الماء الراكد في بُحيرة التسلُّط والصِّلف الأمريكي؛ فرغم وجود لوبي علمي مصري يضم مئات العلماء في مجالات الطب والهندسة والفضاء، ولوبي خليجي يضم رجال أعمال وصيارفة، ولوبي فلسطيني وسوري ولبناني يضم كتابا وفنانين، إلا أنَّ "اللا شيء" هو الوَصْف الملائم لعُرى الرَّبط بينها؛ إذ العمل الجماعي لهذه اللوبيات العربية دون المستوى، سواءً داخليًّا أو عابرًا للحدود الجغرافية.

إنَّ عدم وجود لوبي عربي مُلم بمهارات ألعاب الضغط السياسي والتأثير في دوائر صناعة القرار الأمريكي، وغياب التعاون والتنسيق لخدمة المصالح العربية على نطاق أوسع، يُضعف أيَّ مُحاولة لإعادة الاتزان في كفَّتي السَّلام والمصالح في العالم أجمع، والشرق الأوسط على وجه الخصوص، وهو ما لن يتحقَّق في ظلِّ اعتمادٍ أُحاديِّ النَّظْرَة على العلاقات الشخصية في تشكيل ضغوطات لا تُثمن ولا تغني؛ ولن تُسعف في حل الأزمات وإعادة صياغة القوانين التي تَصْدُر ضدهم رغم كلِّ الخدمات الجليلة التي يُقدِّمونها للبيت الأبيض والسياسة الأمريكية في العالم، على حساب مصالحهم في أحيان كثيرة.. لقد آن الأوان لأنْ تُعيد قوى الضغط العربية ترتيب أوراقها وإحكام قبضتها على "عصا التحويلة"؛ للتأثير على اتجاهات قُضْبَان السياسات الأمريكية وقطارها الذي تقوده لوبيات ورئيس كِلَاهُما مُتهورٌ ومُنَحاز لكيان صهيوني خبيث.