"مِيثَاقًا غَلِيْظًا"

عمَّار الغزالي

"لا يفرك مؤمن مؤمنة، إنْ كَرِه منها خلقًا رَضِي منها آخر".. إنَّه توجيهٌ نبويٌّ سماويٌّ عظيم، يُذكِّرنا دوماً بضرورة البحث عن المحاسن كلَّما سوَّلت لنا أنفسنا نسيان الجميل وحُسن العشرة مع شريك العمر ورفيق الدرب في رحلة الحياة؛ وذلك إنما هو لمعالجة جفافٍ عاطفي تعانيه مجتمعاتنا للأسف الشديد، وهو حديثٌ تفرضه تلك الزيادة المفزعة في أعداد الطلاق في بُلداننا العربية، بناءً على الآثار المدمِّرة التي تترتَّب عليه؛ سواءً على الزوجيْن أو على نشأة الأبناء، أو المجتمع، وما يزيد الأمر قسوة إحصاءات ما يُسمَّى "الطلاق المبكر" بعد رحلة زواج لا تكاد تُكمل عامها الأول، كقضية مُجتمعية ومسؤولية تربوية تجاه أجيال لم تنشأ على احترام الزواج كعلاقة مُقدَّسة، لا يصح التلاعب فيها أو الاستهتار بها، مِصْدَاقًا لقوله تعالى: "وَأَخَذْنَ مِنْكُم مِيثَاقًا غَلِيْظًا".

فالآثار النفسية، والاجتماعية، والعاطفية، والمادية، والأخلاقية، بل والأمنية المترتبة على كلمة "أنتِ طالق"، تُضعف أيِّ مُجتمع لا مَحَالة على المدييْن المتوسِّط والبعيد؛ نظرًا لفاتورته الباهظة، التي يدفع ثمنها الجميع؛ فليس من السهل أن يستطيع الأزواج المطلقون استعادة سلوكهم التوافقي بعد الانفصال، وأحياناً من الصَّعب أن يستعيد بعضهم ثقته في نفسه أو في أي شريك آخر مستقبلا، وبالتالي تَفُوْت على المجتمع فرصٌ كبيرة؛ باعتبار الأسرة هي الكيان الأول والمنشِئ له، وبالتالي فإن انهيارها يؤدي هو الآخر لإضعاف بنيته. ولعلَّ آثار تفاقم تلك الظاهرة اليوم باتت معلومة لمعظمنا. أمَّا منشؤها فالأسباب كثيره منها ما يعود للغياب الحقيقي الحاصل في فهم مقاصد أحكام الشريعة الغرَّاء التي وَضَعَتْ للزواج أحكاما تفصيلية دقيقة تزيد من قدسية العلاقة، بينما يَبْرَع الكثير من شبابنا اليوم لأن يكون على دراية تامة بتفاصيل كماليات حفل الزواج، وأفضل الأماكن التي تقدِّم أشهى موائد الأعراس، وأسعار قاعات الفنادق وقوائم الطعام فيها، وترتيب الكوشات.. وغيرها من الأمور التي تقصم ظهور أبنائنا من الشباب لسنوات بعد الزواج، ولا أبالغ إن قلت بأنه في أحيان كثيرة قد تنتهي العلاقة الزوجية قبل الوفاء بديون "ليلة العمر".

إنَّ الأرقام التي أَعْلَن عنها المركزُ الوطنيُّ للإحصاء والمعلومات، كإحصاء لبيانات مصدرها مكاتب الكاتب بالعدل في محاكم السلطنة، وتفيد بارتفاع وثائق الطلاق بنسبة تتخطى حاجز العشرة بالمائة، لابد أن لا تمر مرور الكرام كخبر عادي نقرأه ثم يحمد كلٌّ منا ربَّه أنْ عافاه مما ابتلى به كثيرًا من خلقه؛ إذ مما يُؤسف له أن نقول بأنَّ لدينا في مُجتمعنا حالات أشبه بالطلاق أكثر بكثير مما تُحصيه البيانات، لأنها تقع تحت بند "الطلاق العاطفي" بين الشريكين؛ فأي سعادة ستأتي من هذا البيت، ثم أي جيل سينشأ في بيتٍ خلا من معاني المودة والرحمة.

ولن أجامل لأزيِّن الصُّورة؛ فقد يكون من أسباب تفشي الظاهرة تجاوز بعض علاقات العمل ليس إطار العمل فحسب، ولكن إطار الحياة الشخصية بمراحل صادمة، يُخبرني أحد الأصدقاء بأنَّ العلاقة بين الموظفين والموظفات في جهة عمله تعدَّت بمراحل الزمالة المهنية: هدايا في أعياد الميلاد، وأحاديث كثيرة جداً بعيدة عن العمل، ترى هذا يحكي لتلك كثيراً عن حياته الخاصة وعن زوجته، ويخبر أصدقاء الشلة بما خفي من أمور أكاد أُجْزِم بأنَّ بعض نسائهم لا يعرفن ولو جزءًا بسيطًا عنها. والعكس صحيح، فهو يعرف عنها وعن زوجها وصديقاتها وهواياتها الكثير. وهو الأمر نفسه الذي ينطبق على كثير من صداقات العالم الافتراضي في السوشيال ميديا التي استُغلَّت أسوأ استغلال، وقُضي ببعضها قضاءً مروِّعًا على أخلاقيات الزمالة المهنية تماماً، كما قضت على معاني الوفاء وحفظ بيت الزوجية، وما أكثر مداخيل الشيطان التي تورد المرء منا المهالك للوقوع في مصيدة التعلُّق القلبي الذي يُفضي إلى طلاق عاطفي بين زوجيْن لم يحفظا عهدًا وميثاقا.

قد يُسخِّف البعض ذكر هذه الحقائق، أو قد يعتبرها ظاهرة استثنائية لا ينبغي ذكرها والتطرُّق لها، وفي أفضل الأحوال سيقول بأنها نادرة الحدوث، لكنني أقول بأن التغاضي عن أمور كهذه وإن صَغُرت، فإنه يُؤثر سلباً على أيِّ علاقة زوجية حتى ولو كانت متينة؛ إذ في حِيْن من الأحيان ستُسبِّب النفورَ وحجودَ العِشْرة، مما يوصل في النهاية لأحد طريقين: إما طلاقا فعليًّا، أو عاطفيًّا لا يقل سوءاً عن نظيره الأول.

كما أنَّ قلة الوَعْي والخبرة هي مُسبِّب بارز آخر لتنامي ظاهرة الطلاقيْن، وهنا أسلِّط الضوء على تجربة تستحق الإطراء، تبنتها الحكومة الماليزية للحيلولة دون تفاقم مُشكل الطلاق في صفوف الماليزيِّين؛ بعدما بلغت نسبة الطلاق ذروتها؛ مما حدا بالحكومة استحداث فكرة "رخصة الزواج"، التي بموجبها يلتزم كل طرف يرغب في الزواج من الجنسين بأن يخضع لدورات تدريبية متخصصة، داخل معاهد خاصة، يحصلون بعدها على رخصة تسمح لهم بعقد القران، بداية من الخِطْبَة واختيار الشريك، مرورًا بالزواج وأحكامه ثم التربية ومسؤولياتها، وصولاً للواجبات الشرعية اللازمة على كليهما. واليوم -وبفضل هذه الرخصة- انخفضتْ نسبة الطلاق في ماليزيا بمقدار10 بالمائة!

واليوم، وفي ظل أعداد وثائق الطلاق في عُماننا، ألا يحق لنا أن نتساءل عن سبب التأخُّر في إيجاد حلول كهذه تتناسب وخصوصية مُجتمعنا لمواجهة ظاهرة بهذه القسوة؟ وما هي جدوى برامج التوعية لدينا للمقبلين على الزواج؟ وهل يُمكننا أن نتحدث عن دور فاعل وحقيقي لمكاتب توجيه وإرشاد أسري تباشر دورها في حل النزاعات الأسرية قبل وقوع الطلاق؟ وأين الأفكار المتجدِّدة في برامج التوعية التي تحفظ كيان الأسرة واستمرار الحياة الزوجية؟ ولماذا لا نُفكر في دراسة الحجم التقريبي للطلاق العاطفي في مجتماعتنا وأسبابه وتأثيراته على الأسرة والأبناء؟ ثم هل دوائر الإرشاد الزواجي مفعَّلة على أرض الواقع، أم أنها مجرد كيانات فقط للتشغيل وإيجاد فرص للباحثين عن عمل؟ وهل نمتلك مؤسسات تقدِّم الرعاية المُثلى للأبناء ثمرة الزيجات الذي تفشل؟ ولماذا تخلو مناهجنا من تدريس منهج علم الاجتماع العائلي للطلاب؟ وأين دور اللجان الأهلية في جمعيات العمل التطوعي القائمة حالياً لتقديم النُصح للمقبلين على الزواج، كما يُقدِّمون الدَّعم العيني لإنجاز مهمة بناء عش الزوجية؟ وماذا عن التنسيق بين مكاتب وزارة العدل والمراكز التابعة لوزارة التنمية والشؤون الاجتماعية، لإيجاد حلول ناجعة للمشكلات التي تواجه المتزوجين قبل وقوع الطلاق؟ هل نحتاج عيادات للأسرة تضمُّ متخصصين في علم النفس والاجتماع والتربية يستطيعون التعامل مع المشكلات الاجتماعية برؤى مستنيرة وفكر متخصص؟ ألسنا بحاجة لسياسة وطنيه متكاملة تحفظ الاسرة وتكفل معالجة الأسباب المؤدِّية لكثرة الطلاق وتحفظ الأبناء من شتات الأبوين؟

... إنَّ النظر للحياة الزوجية بواقعية وشعور بالمسؤولية تجاه الطرف الآخر، واحتواء المشاكل وحلها بالحُسنى، هي أصلٌ أصيل يحفظ للمجتمع تماسكه ويحدُّ من تفاقم هذه الظاهرة السلبية، ومسؤولية مجتمعية يتوجَّب على الجميع أداؤها على أحسن ما تكون؛ دستورًا وميثاقًا يُنظم العلاقة المقدَّسة بين الزوجين، وأن يتلمس كلٌّ منهما مُسبِّبات المودَّة والرحمة التي جُعلت بينهما، وأن الله -عزَّ وجل- لم يشقَّ عليهما فلا يكونا هما سبب المشقة والعناء؛ فقوله تعالى: "وهو الذي خلق لكم من أنفسكم أزواجًا لتسكونوا إليها"، ضامن لكلِّ حقوق الزوج والزوجة؛ فـ"من أنفسكم" تجمع كافة حقوق الزوجة، و"لتسكنوا إليها" إجمال لكلِّ حقوق الزوج، وعلى الزوج كقائد للعلاقة أنْ يُحكم قبضته على عجلة القيادة كي لا تنحرف دفة السفينة إلى المهالك، وأن يعيش مع قوله تعالى: "وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً".. حفظكم الله ودامت قلوبكم عامرة بالمودة والرحمة.

ammaralghazali@hotmail.com