يوم القدس العالمي

 

زاهر المحروقي

اختفت القضيّة الفلسطينية من وجدان الشعوب العربية والإسلامية، فلم يعد للقضية حضورٌ على المستويين الرسمي والشعبي، لدرجة أن يصل الأمر إلى موت الشعور والضمائر؛ ولم يعد العرب يهتمون إن كانت إسرائيل تقصف غزة أو أنّ الشعب الفلسطيني يعيش تحت الحصار. والأمرّ من ذلك أن يتم تصنيف حركات المقاومة الشريفة من قبل العرب بأنّها حركات إرهابيّة؛ وقد يصبح  التعاطف معها - مثل التعاطف مع الشعب القطري - جريمة يعاقب عليها بالسجن لمدة 15 عاماً. وبالتأكيد لم تصل الأمور إلى هذه الدرجة فجأة، وإنّما كانت هناك مقدمات كثيرة، هي التي أوصلت الناس إلى هذا المستوى، لعبت فيه بعض الحكومات العربية الدور الأساسي في ذلك، بعد أن غاب الدور المصري عن الساحة تماماً، ووصل بها أن تكون عرّاباً لإسرائيل في المنطقة، لا تخدم إلا الأمن القومي الإسرائيلي، ولعلّ قضية جزيرتي صنافير وتيران خير دليل على ذلك. وكذلك فإنّ السلطة الفلسطينية لعبت الدور الأساسي في قتل القضية الفلسطينية، بعد أن أصبحت تأتمر بأوامر الكيان الصهيوني، فيما ورّطت حركة حماس نفسها في إشكاليات عندما تخلّت عن الحليف الأساسي لها وهو الحكومة السورية، وانتقلت إلى الدوحة، وها هي الآن قد صُنفت من قبل ترامب وقمم الرياض الثلاث بأنّها حركة إرهابيّة يجب استئصالها مع حزب الله اللبناني. وبعض العرب قد انشغلوا بعدو بديل هو إيران، فشنّوا حروباً في سوريا واليمن فأهلكوا الحرث والنسل، تمهيداً "لتهيئة كلِّ المناخات السياسية والرسمية والشعبية والوجدانية لتسويةٍ لمصلحة العدو الإسرائيلي"، كما أشار إلى ذلك السيد حسن نصرالله في كلمته بمناسبة اليوم العالمي للقدس في الـ23 يونيو 2017.

إنّ الاحتفال بيوم القدس يجعل المسلمين - خاصة الأجيال الجديدة - يرتبطون بالقدس وبالمسجد الأقصى، ويُظهر هذا الاحتفال المنزلة الرفيعة للقدس والمسجد الأقصى لدى جميع المسلمين في العالم، ويبيّن مدى أهمية الحفاظ تلك المقدسات، كما يعكس يوم القدس العالمي، حقيقة يجب أن تكون أساسيّة هي أنّ الكيان الإسرائيلي كيان غير مشروع؛ لذا وُجد من يحارب هذا اليوم وينسبه إلى "الرافضة والمجوس"؛ وهي في الواقع كارثة كبرى أن يصل الأمر إلى هذا المستوى من الانحطاط. ومن يبحث في النت عن المقالات التي كتبت ضد الاحتفال باليوم العالمي للقدس يرى عجباً، ولو تمّ تغيير اسم الكاتب إلى اسم يهودي لما وقع القارئ في شك فعلاً بأنّ الكاتب هو صهيوني؛ ومن أمثلة ذلك ما كتبه الدكتور مسلم محمد اليوسف في موقع "صيد الفوائد" تحت عنوان "يوم القدس العالمي - أهدافه المخفية والمنظورة"، ينتقد فيه الإمام الخميني واصفاً إيّاه بإمام الروافض، بأنّه ابتدع يوماً أسماه يوم القدس العالمي. ويرى الدكتور اليوسف أنّ الخميني أراد أن يجعل من هذا اليوم يوم مواجهة بين حكام العرب والمسلمين وشعوبهم لإشعال نار الفتنة والاضطرابات، بل إنّ الكاتب ذهب بعيداً عندما قال "إنّ الهدف الرئيسي من هذا اليوم هو زرع الفتنة في أرض الحرمين حفظها الله تعالى؛ فالمملكة العربية السعودية يفتي علماؤها بحرمة أمثال هذه الأعمال الغوغائية لمخالفتها الهدى النبوي، فما فائدة أمثال هذه الأعمال إلا الفوضى والفتن، وهذا ما يريده الخميني ورجال دولته"، وهذا الكلام في الواقع خلط غريب بين الأمور.

ولكن على خلاف ما ذهب إليه الدكتور مسلم ومَن نهج نهجه، فإنّ الإمام الخميني قد أصاب عندما دعا بتخصيص الجمعة الأخيرة من كلِّ رمضان يوماً عالميًّا للقدس؛ فالقدس هي عنوان فلسطين وعروبتها؛ والاحتفالُ بيوم القدس يعزز ثقة الناس بقضيتهم العادلة، وأنّ مصير المسجد الأقصى إلى التحرير، مهما كانت قوة إسرائيل ومهما طال الزمن، فلن يضيع حقٌّ وراءه مُطالب، رغم خذلان الأنظمة العربية للشعب الفلسطيني، وتخلِّيها عن واجب الدفاع عن المسجد الأقصى بحجج مختلفة.

مرت ذكرى يوم القدس هذا العام، وبعض الدول الخليجية أصبحت الحليف الرئيسي لإسرائيل، وانشغلت بحصار الشعب اليمني الذي ذاق الأمرَّين، وبحصار الشعب القطري حتى لا يجد فطوره وسحوره فيثور ضد حكومته، ممّا يعني أنّ قضية المسجد الأقصى، بعد سنوات قليلة ستكون نسياً منسيًّا، إذا استمرت هذه العلاقة بين هذه الدول والكيان الإسرائيلي، والتي تحوّلت من تحت الطاولة إلى العلن؛ وحتى في حالة هدم المسجد الأقصى فإنّ الأمر سيكون طبيعيًّا جداً، إذ تمّ التمهيد لذلك بتغييب القضيّة عن أذهان الناس؛ فلم تعد القدس قضيّة تثير مشاعر الكثيرين بعد أن کانت القضيّة الرئيسية للعرب والمسلمين. والواقع يقول إنّ إسرائيل لم تنتصر إلا بسبب الخيانات العربية التي استبدلت العدو بعدو آخر، هو أقرب إلى القضية الفلسطينية من العرب أنفسهم.

وفي كلِّ الأحوال فإنّ الاحتفال بيوم القدس العالمي انتشر خلال السنوات الأخيرة بين الناس، حيث أصبحت المشاركة فيه لا تقتصر على العرب أو المسلمين فقط، إذ يشارك في الاحتفال بهذا اليوم حتى غير المسلمين مثل اليهود الأرثوذكس وهم المعادون للصهيونية، كما أنّ الاحتفالات تقام في العديد من العواصم الأوروبية وفي الولايات المتحدة الأمريكية نفسها. والاحتفالُ بهذا اليوم يذكِّر الناس بالقضية الفلسطينية وضرورة تحرير المقدسات، وأنّ القدس تبقى عنواناً رئيسيًّا لكفاح الشعب الفلسطيني، حتى وإن خذلهم الأشقاء العرب، بأن ركضوا إلى التطبيع مع إسرائيل، ولسانُ حال المهرولين والمطبِّعين يقول "نخشى أن تصيبنا دائرة"، وإنْ كان الاحتفال بيوم القدس رمزيًّا فقط حتى الآن، إلا أنه يعيد إلى الذاكرة العربية والإسلامية قضية فلسطين وأهميتها؛ وسيبقى أنّ يوم القدس العالمي، هو يوم هام بالنسبة للأجيال الصاعدة، لأنه يفتح الأسماع والأبصار والعقول على قضية جوهرية أريد لها أن تطوى في النسيان، وهذا بالتأكيد يؤلم إسرائيل ويؤلم عملاءها وحلفاءها الذين يرون في إسرائيل حليفاً، وفي إيران عدواً، وفي حزب الله وحماس والجهاد الإسلامي إرهابيين، وفي قطر الآن كلّ ذلك.