سماحة الشيخ .. وخطاب الاعتدال

عبدالله العجمي

يكثرُ الحديثُ في عصرنا الحالي عن الاعتدال والبحث عن مصاديقه في فكرنا المعاصر، ويتشعب هذا الحديث كثيراً مع الازدياد المُطّرِد لا في حجم ومستوى التكفير أو الإقصاء أو الاستفراد بالرأي فقط؛ فهو أمرٌ نقل لنا التاريخ بعضاً من حوادثه وعناوينه، إذ لم يكن العنف الفكري محصوراً بديانة دون أخرى أو فئة دون غيرها، بل كان هذا العنف يشدّ رِحاله مُتنقّلاً من موقعٍ إلى آخر ومن مرحلة إلى أخرى على امتداد العصور والأزمنة... ولكن معاناتنا في الأساس تتلخّص في كيفية مُعالجة هذا الانحراف الفكري.

ولعل اتساع المدى الذي صار يتحرّك فيه الخطاب الإقصائي، متمثلاً في استفادته وبشكل مُباشر من وسائل الإعلام الرقمي التي غزتنا والتي ساعدت في إخراج هذا الخطاب من غُرفه المُغلقة لينتشر -كالنار في الهشيم- جغرافياً وديموغرافياً مُدغدغاً فِكر وأحلام بعض شباب هذا الجيل؛ عازفاً على وتر الأزمات النفسية أحياناً أو مستغلاً الإحباطات السياسية في أحيان أخرى وربما وظّف بعض الإخفاقات الاقتصادية ليصل بها إلى عقول البعض.. لكن المصيبة العظمى هي حين اقترن هذا الفكر الإقصائي بالتطبيق، وهو أمر غير مسبوق، أقلّها من حيث سرعته ووتيرة انتشاره وأثره الدموي وحجمه الكارثي، ولنأخذ على سبيل المثال لا الحصر العمليات الانتحارية في العراق خلال العشر سنوات الماضية.. فالمشاهد المؤلمة لما أنتجه هذا الفكر جعلت ملك الموت يتخذها محطة له ولرُسُلِه فشلال الدم المسفوك ظُلماً لا يكاد ينضب.

لهذا فإنَّ الكتابة عن الاعتدال ليست من التَّرف الفكري كما يتصور البعض، ولا هي مفردة من مفردات ما بعد الحداثة، نُؤطّر بها كتاباتنا.. بل أصبحت ضرورة مُلحّة، مع ما يعصف بعالمنا من أزمات، ولست بوارد التأصيل له، أو إعادة اعتباره.. فهناك من له الفضل بالقيام بمثل هذا الدور، ولعل من أبرز هذه الأدوار هو دور سماحة الشيخ أحمد الخليلي مفتي عام سلطنة عُمان.

فالقاصي يشهد قبل الداني أنَّ كلماته وخطاباته كانت سبّاقة لفتق الرّتقِ بين حرية الفِكرِ وإقصاء الآخر، منبثقة من فطرةٍ سليمة تعي ما معنى "حُرمة الدّم"، ومؤسساً لواقع أفضل لهذا الإنسان المسلم، فرغم بساطة هذا المبدأ -أي الاعتدال- إلا أنَّه قد يكون المُنطلق لحل كثير من مشاكلنا.. فمثلاً في كتابه الأخير "الاستبداد: مظاهره ومواجهته" استدعى التراث ليستشهد به على قِدَم هذا الفكر الإقصائي، الذي حاول أن يسلُب الإرادة الإنسانية متدثِّراً بعباءة الدين.. وحاول في كتابه أن يرسّخ لمبدأ أن الدين أتى لخدمة هذا الإنسان، لا أن يقوم الإنسان بتسخير الدين لتحقيق مآربه، فالاعتدال في فكر الشيخ أخذ أشكالاً وصوراً عدّة من فهم ديني وتشريعي وتوظيف في خطاباته..

ينطلق الشيخ من محطّة مهمّة وهي أن فهم الدين إنما هي عملية عقلية بشرية، ربما تحتمل الصواب وربما الخطأ، ولا عصمة للفهم، ويشمل هذا الأمر الطرف الآخر، مما يدفع بمدّ جسور التواصل الإنساني مع بقية الطوائف، ما من شأنه أن ينزع فتيل الفكر الإقصائي الإلغائي المتعصّب والواهم أنَّه وحده من يمتلك الحقيقة المطلقة دون غيره.

وقد جسّدت خطابات الشيخ الخليلي الرّفق والرّحمة، والدعوة إلى الوحدة ونبذ الخلافات والبُعد عن خطاب التشنّج والإقصاء للغير..

ومما ميّز الشيخ في توجهه هذا -إضافة إلى أهمية موقعه- هو البُعد الروحي، فاعتدال أي خطاب عادة ما يكون منطلقا من أسس ضيقة عند البعض، لكن الشيخ كان شديد الحرص من خلال مكانته وخطابه التجديدي، على محاولة إيصال هذا الفكر إلى الكلّ دونما حواجز، جاعلاً هذا الخطاب المُعتدِل ثقافة عامة ليست خاصة بالشعب العماني فحسب بل لكافة شرائح المجتمعات المسلمة، فلم يُهمّش أحداً ولم يتجاهل سؤالاً، ولم يستخفّ بفِكر أحد، بل حاول إزالة الحواجز والعمل على بناء ما هدمه غيره من قيم، نعم فالمتابع لخُطبه ومحاضراته يتفطّن إلى أنه قلّص بخطابه الهوّة بين العلماء والمفكّرين وبين فئات المجتمع وذلك بيقينه بإنسانيّتهم جميعاً.

لن أطيل الحديث، داعياً المفكّرين وبقية الكتّاب لتسليط الضوء على تفاصيل هذا الخطاب المعتدل ومفرداته، والذي نتوسم أن يكون نقطة ارتكاز لكل مُعتدِل ولكل الساعين إلى أنسنة الخطاب الديني المعاصر في وقت ندُرت فيه الإنسانية وحال دون بلوغها الكثير من الجهد والعناء..

حفظ الله سماحة الشيخ، وشكر الله له سعيه وكثّر من أمثاله.

*رئيس لجنة التعليم والثقافة بالاتحاد العربي الأفريقي للإعلام الرقمي