"كُنتم خيرَ أمَّة" (6)

 

 

عمَّار الغزالي

 

بَقَدْر ما هِي عديدة المواضع التي حثَّ فيه دينُنا الحنيفُ على العمل، كانت الشواهد من القرآن والسنة النبوية وما رُوِي في الآثار مُلزمة لضرورة إتقانه، بل وَرَفْعت الإتقان إلى مَرْتَبةٍ أعلى من العمل نفسه؛ فحديثُ رسولنا الكريم: "إنَّ الله يُحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يُتقنه"، يختصر المجال أمام بيان عِظَم شأن فضيلة الإجادة والإتقان في العمل، كسبيل يؤدِّي إلى محبَّة الله، ليس كمفهوم يُؤصِّل لهدف سلوكي وأخلاقي فحسب، بل كهدف من أهداف الدين يَسْمُو به المسلم، ويرقى به لمرضاة الله والإخلاص له جلّ في عـُلاه.

وفي ظلِّ حديث مُتنامٍ هذه الأيام عن الجودة -بشقيها: النوعية والشاملة- وما وُضِع لها من مقاييس وجوائز، وما عُقِد لها من ندوات ومؤتمرات، وما اصطُلح عليه من مفاهيم في الإدارة الحديثة، ودراسات وتوصيات من مُؤسَّسات دولية لها من الشأن ما لها، تبقى شريعتنا الغرَّاء منهاجًا لتأصيل مفهوم الإتقان؛ إذ هو عند المسلمين مطلبٌ شرعيٌ في الإساس؛ فالإتقان، والإحسان، والتجويد، والإحكام كُلُّها مفاهيم أفردَ لها ديننا مواضع تستعصي على الإحصاء؛ لمسيس علاقتها برسالة من رسالات الإنسان الأساسية: الاستخلاف في الأرض وعمارتها.

فمن لدُن آدم -عليه السلام- وقضية الإتقان عند الأنبياء واضحة وضوح الشمس في رائعة النهار؛ فنبي الله داود -عليه السلام- الذي علَّمه ربُّه صنعة الحديد، أمره بالتجويد والإتقان، وهو ما تشير إليه الآية الكريمة "وَقَدِّر فِي السَّرْدِ"؛ فالمسمار بحسب الحلقة، فلا تجعل المسامير دقاقاً فتنفلت، ولا غلاظاً فتكسر الحلق، "قَدِّر في السَّرْد": اجعله على قدر الحاجة. وحكاية عن سليمان -عليه السلام- في قصة عرش ملكة بلقيس وإتقان صُنعه: "فَلمَّا جَاءَتْ قِيْل أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأنَّهُ هُو". وإدريس -عليه السلام- أوَّل من خاط ثوبًا بإتقان فسارت عليه الأمم من بعده. ونبي الله مُحمَّد -صلى الله عليه وسلم- الذي أتقن فنونَ التجارة حتى لُقِّب بـ"الصادق الأمين"، وصحابته -رضوان الله عليهم- الذين اهتدوا بهديه؛ فذاك عثمان بن عفان وعبدالرحمن بن عوف بأمانتهم في التجارة، وخباب بن الأرت في الحدادة، وعبدالله بن مسعود في رعي الغنم، وسعد بن أبي وقاص، والزبير بن العوام.. وغيرهم من الصَّحْبِ الكرام ممَّن ضربوا أروع الأمثلة في إتقان مهامهم والوفاء بأعمالهم اهتداءً بـ"إنَّ الله يُحب إذا عمل أحدكم عملا أن يُتقنه".

وهي ثقافة تغيبُ عنَّا أحياناً رغم أنَّها من صميم الدين؛ وذلك في رأيي يعود لغياب الوعي الكافي بما وراء منطوق الشواهد وتفسيراتها الصحيحة، فهل يا تُرى لو اعتقدَ العامل أنَّ عمله محل نظر الله جل جلاله، مصادقًا لقوله عزَّ وجلَّ: "وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ"، هل سيكون أداؤه على هذه الشاكلة؟! وهل لو اعتقد بأنَّ فريضة الإحسان كما هي مأمور بها شرعا في الأمور الدينية، أنها أشد وجوبا وأكثر إلزاما في الأعمال التي تتوقف عليها حياة الناس وتتحقق بها ضرورياتهم، هل ستكون إنتاجيته على ما هي عليه اليوم؟!

وهي تساؤلات تفتح المجال أمام حديثٍ مُؤلم عن واقع بعض أصحاب المهن والوظائف والعمال المسلمين خلال شهر رمضان المبارك على سبيل المثال، من تكاسل واسترخاء واستسهال‏، وتقاعس عن أداء واجباتهم الوظيفية، بل يصل الأمر في بعض الأحيان حدَّ تعطيل مصالح الناس، في تضادٍّ عجيب مع ما تهدف إليه مبادئ وغايات الشهر الكريم، وأخلاقيات ديننا عمومًا، التي تؤكد على أنَّ الإتقان ضرورة شرعية سواءً في رمضان أو غيره من شهور السنة؛ فالعبادة والعمل صِنْوَان لا يفترقان، وقيمتان متلازمتان.

إنَّها دَعْوَةٌ لنا جميعاً، ونحن نعيشُ أجواء هذا الشهر الكريم، أن يُجدِّد كلٌّ منا نيته لتدارك ما فاته في شأن إتقان العمل، وأن يصير هذا النهجُ ثقافة عامَّة في المجتمع، وخُلقا واقعاً، وسلوكا حيًّا نعيش به، وأنْ يعلم المرء أن عمله أمانة فلا يُضيِّعها ولا يفرط فيها؛ فالله يقول: "وَالذِيْنَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِم وَعْهِدِهِم رَاعُوْن"، وأن نضع نصب العين الجد والمثابرة؛ فالإتقان يحتاج مُجاهدة ومُغالبة لعوامل الكسل والإهمال؛ اهتداءً بقوله سبحانه: "وَالذِيْنَ جَاهَدُوا فِيْنَا لَنَهْدِيَنَّهُم سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ المُحْسِنِيْن". وأن تتحوَّل تلك المبادئ من إطارها النظري إلى واقعٍ حياتيٍّ، خصوصاً ونحن ننشُد مجتمعًا إنمائيًّا ينافس بقوة في السوق العالمية، وهذا بالطبع لن يتحقَّق وهناك ضعفٌ في الإنتاج، وتهرُّب من المهام، وقصورٌ وتقصيرٌ وعدم إتقان.. إننا بحاجة لتغيير جذري في مفاهيم العمل لدينا وأهمية الإنتاج، وهو ما لا يستقيم دون تعليم مُكثَّف لكيفية غرس تلك الفضيلة في النفوس، وأن تتغيَّر رؤانا التربوية لأبنائنا بأن نُعلِّمهم أهمية الكد والاجتهاد والإتقان من أجل حياة أفضل وجيل مُتقن يحمل اللواء، وأن نعمل جاهدين على محو المفاهيم الخاطئة من سجلات ذاكرتنا التي لا تفرق بين الاستذكاء والتحايل في تأدية المهام، وبَيْن سُمُو غاية العمل والاجتهاد في إتمامه وإتقانه؛ سَيْرًا على هَدْي رسولنا الكريم: "إنَّ الله يُحبُّ إذا عمل أحدكم عملاً أن يُتقنه".

وللحديث بقيَّة...،

ammaralghazali@hotmail.com