هل أنت مستعد لاجتياز اختبار التسامح؟

 

 

زينب بنت محمد الغريبة

أؤمن أنَّ الكراهية في مُجتمعاتنا هي الشيء الذي يُؤمن به كثيرون، وأنَّ التسامح مجرد قيمة عارضة لا يختلف في ذلك الأفراد عن الدول، فالكل لديه نزعة الانتقام أكثر من نزعة التسامح، نعم يُريد البعض من تكرار خطاب التسامح أن يقنع نفسه أنه إنسان سوي متسامح مع الآخرين، وكذلك تفعل بعض الدول وتضخ في إعلامها ألا دين لها إلا دين التسامح، ولكن كل ذلك الإيمان بالتسامح ينهار أمام أوَّل اختبار، نعم لا يُمكن أن نقر بترسخ التسامح إلا مع وجود اختبارات قوية جدًا تجعل الإنسان أو الدولة تبدي صفحاً وتسامحًا كبيرًا، اختباراً لا يكون فيه مساومة ولا ضغوطات إلا النزعة الداخلية القوية لاتخاذ قرار يهزم الكراهية بطريقة لا يمكن أن تهزمها عشرات الآلاف من الكلمات عن التسامح، ولا يمكن أن يسكتها تحريك الجيوش، موقف واحد يمكن أن يمنح إنساناً قوة لا يمكن أن تكون لأي سلطة، ولذا ليس من السهل الحديث عن التسامح في ظل كل ما يجري من ترسيخ الكراهية والرغبة في الانتقام والتشفي، والإقصاء والتهميش، والفساد، والسطو على كثير من الحقوق، والظلم، لأنَّ مثل هذه البيئة التي تنتشر فيها هذه الأمراض والمشاعر كيف للتسامح أن يتسلل إليها، كيف يمكن للإنسان أن يكون حملاً في مجتمع من الذئاب، وكيف يمكن للإنسان أن يكون لينًا في مجتمع قاس، أو أن يكون واضحًا في مجتمع غامض، أو أن يكون متسامحًا في مجتمع مقصٍ.

علينا أن نُحدِّث أنفسنا عن التسامح حتى في ظل هذه الظروف التي أفسدت فيها الفطرة الإنسانية، وجندت من أجل الباطل، ومن أجل تشويه الحقيقة، انظروا إلى ما يجري حولنا من صدام بين الدول، وبين أبناء المجتمع الواحد لأسباب مختلفة اقتصادية ودينية وإدارية وقبلية، هل يمكن أن نرسم بقعة ضوء في كل ما نراه، وما نرى إلا أننا ودودون متسامحون مع أعدائنا وقساة أشداء على بني جدلتنا، نظهر هناك تسامحاً حتى لا نكشف عن ضعفنا، ونظهر هنا شدة وغلظة حتى لا يبين تسامحنا، فأي تناقض نعيشه، وأي أزمة قيم نمر بها، وهل يمكن لنا أن نعيد التسامح الذي فرَّ من ديارنا مرة أخرى، هل يمكن أن نعيد بناء مجتمعات متسامحة كما يحثنا ديننا على ذلك؟

 

 وجدت أنَّ مشكلة تعزيز التسامح هي غياب النماذج الحية الكبرى التي اجتازت التسامح، التي فيها تحديد مصير لآخرين، التي فيها عفو صعب قد لا يقوى عليه إلا الإنسان البسيط الذي ليس لديه حسابات الدول ولا المؤسسات التي تعتقد أن وزر الظلم سيوزع بين أفرادها سيكون نصيب كل منها جزءا بسيطا يحاسب عليه، ولذا دعوني أطرح عليكم هذا الموقف لعله يضعكم موضع اختبار لو لا سمح الله قام أحد بقتل ابنك أو ابنتك؟ هل ستسامحه أم أنَّك ستطالب بإنزال أقصى العقوبة به؟ لا شك أن كثيرين ومن حولهم سيطالبون بالعقوبة الغليظة، وقلة قليلة جدًا سيقفون موقفا مؤثرا ويسامحون قاتل ابنهم، هل هناك أقسى من مثل هذا الاختبار للتسامح؟ هذا ما فعلته الأم الإيرانية "سميرة علي نجاد التي قُتل ابنها البالغ من العمر ثمانية عشر عاماً في عام 2007، وعندما أدين قاتل ابنها وقرر تنفيذ حكم القصاص عليه شنقًا في عام 2014م، وكانت مصرة على التنفيذ ولم يستشفعها الأحياء ولكن استشفعها الموتى في الصفح، حيث جاءها ابنها في المنام وطلب منها قبل عشرة أيام العفو والتسامح، ولكنها بقيت مصرة فجاءها مرة أخرى وكان غاضبًا وأدار وجهه لها ورفض أن يُكلمها، وفي يوم تنفيذ الحكم، قال لها زوجها اليوم القرار لك، وفي اللحظة الحاسمة وبعد أن التف الحبل حول عنق بلال قاتل ابنها، واستعد راكل الكرسي لركله من تحت قدميه، لنا أن نتخيل هذا المشهد الذي يقتل فيه إنسان وإن كان مجرمًا، وبين إنسان قادر على أن يهبه الحياة مرة أخرى، أن يسامحه على فعل شنيع جدًا، وهو قتل ابنه، في هذه اللحظة صعدت الأم سميرة إلى مكان التنفيذ وصفعت بلال صفعة قوية على وجهه، وقالت:":” أحسست وكأن الدم بدأ يجري في عروقي، وغادرتني كل مشاعر الحقد والكراهية، وانفجرت في البكاء، وأمرت زوجها بإزالة الحبل عن عنق بلال تقول هذه الأم: "بعد أن صفحت وسامحت لأوَّل مرة أشعر بالأمن والسلام منذ مقتل ابني".

 

كيف سيكون موقفك لو وضعك إنسان في السجن 39 عامًا ظلماً وبهتاناً، هل سوف تسامحه عندما يصحى ضميره بعد كل هذه السنوات التي قاسيت فيها داخل السجن، إن الأمر يتطلب قلبا قوياً وروحاً خيرة وهذا الذي حدث لرجل يدعى "ريكي جاكسون" حيث اعتقل في عام 1975 بسبب قتل رجل في بقالة في أوهايو، بسبب شهادة غير حقيقية من صبي كان عمره 12 عامًا، وقضي اثنان منهم فترة سجن بلغت 39 عاماً حتى أطلق سراحهما في عام 2014، لقد لازم الشعور بالإثم والذنب هذا الصبي سنين طويلة، وذهب إلى القس ليخبره بأنه كذب، وأنه فعل ذلك لمساعدة الشرطة التي كانت تتواطأ من أجل تدمير حياة الناس، وفي عام 2014 ألتقى ريكي بهذا الصبي الذي كبر كثيراً وقال له عبارة مؤثرة لا تحمل أي ضغينة رغم الثمن الفادح الذي قاده إليه، قال له : "حسنًا يا أخي، أنا وأنت كلانا من الضحايا، وأنا قد سامحتك، أنا هنا شخصيًا لأخبرك بذلك".

 

وما أكثر أبطال التسامح الذي واجهوا هذه الاختبارات، فهل نتعلم شيئا منهم، هل نحن على استعداد إلى التكفير عن خطايانا على كل الذين قدناهم نتيجة الحقد والضغينة والكراهية إلى أوضاع تستوجب التصحيح، هل يمكن أن نكون أبطالا للتسامح، بتصحيح كثير من الأوضاع، هل تكف دول وتتسامح مع جيرانها وتكف عنها شرورها، وتعترف بما اقترفته مما قاد إلى تدمير وقتل الملايين، لابد من الاعتراف والتصحيح وإلا لا يحق لنا وصف مُجتمعاتنا بالتسامح، لأن التسامح نتيجة بعد اختبار، وتصحيح بعد خطيئة، وعمل وسلوك قبل أن يكون خطابًا أجوفاً لا معنى له.