أزمة الخليج والدروس المُستخلصة

 

علي بن مسعود المعشني

لم أكن أنوي الخوض في هذه الأزمة رغم فداحتها وحساسية توقيتها وجغرافيتها وأطرافها وأبعادها، كونها قضية – في تقديري الشخصي – متوقعة ومترقبة بحسابات السياسة والنتائج الاستراتيجية لمواقف وسياسات بعض أقطار الخليج والتي ألهاها التكاثر وسعار تدفق مليارات النفط فسال لعابها لصناعة التاريخ والعبث بالجغرافيا وانتحال صفات وأدوار تفوق مقدراتها وقدراتها وتكشف هشاشتها وتجعلها عرضة لكل مبتز وتاجر حرب في العالم.

ولكن القضية أبعد من حصرها في خلاف رباعي أو حظر تجاري وقطع علاقات وحصار جغرافية بعينها، فالنزاعات اليوم وفي ظل التشابك العضوي بين دول العالم وغياب المفاهيم التقليدية للسيادة والأمن القومي للدول بفعل أعراض العولمة والتجارة الدولية وطفرة ثورة الاتصالات حتمت على جميع الدول الحيوية في العالم خلق مفاهيم حديثة وفاعلة للسيادة والأمن القومي بحيث يتعدان الجغرافيا والحدود السياسية إلى جغرافيات مصالح وقواعد اشتباك تتناغم مع لغة العصر وقواعد الصراعات وأدوات الحروب الحديثة بأجيالها الرابعة والخامسة، لهذا لم يتحرك العالم اليوم لسواد عيوننا بل لحفظ مصالحه وفق نظرية إكراهات الواقع.

القوة الناعمة وأخواتها هي من يصنع الأصدقاء ويوسع دائرتهم ويقوي النسيج الوطني ويُفعّل حيوية الأمن القومي ويحقق المكاسب وتسجيل النقاط على الخصوم، فحيثما تتوفر المصالح اليوم يخبو السلاح ويتراجع الاحتكام للوسائل العنفية، وتسود لغة الحوار والدبلوماسية الهادئة، على اعتبار أنّ ما يؤخذ بالسياسة والحوار أثمر وأقوى بكثير مما يؤخذ بالقوة ويورث الأحقاد والثأرات والتربص والكيدية لو بعد حين فلا أعراض جانبية للغة العقل والحوار والدبلوماسية.

أقطار الخليج كيانات سياسيّة صغيرة في الجغرافيا والمساحات والتأثير السياسي لهذا كان جيل القادة المؤسسين يستوعبون جميع هذه المفردات ويضعونها نصب أعينهم في جميع خطواتهم وسياساتهم فنجحوا في النأي بأنفسهم وبأوطانهم عن صراعات الكبار وأطماعهم والقضايا التي تفوق طاقاتهم ومقدراتهم، وكانوا بفطراتهم السليمة وعفوياتهم يدركون مغبة كل خطوة يخطونها ويدرأوون المخاطر عن أوطانهم قبل استفحالها، وكأنّ المولى عزّ وجل خصّهم بقوله "الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف".

في السياسة هناك قواعد عامة لا تعرف التقادم أو التغيير، ومنها أنّ الملف المفتوح يعني المزيد من الأوراق والتعقيدات والتدخلات وبالنتيجة غياب الحلول المرجوة والنتائج المتوقعة، وفي الفلسفة وعلم الأخلاق فإنّ الفضيلة تقع بين أمرين كلاهما شر، فالشجاعة فضيلة تقع بين الجبن والتهور، والكرم فضيلة تقع بين البخل والتبذير وهكذا، لهذا فما قام به الزعيم السوفييتي خورتشوف "بالإذعان" للتهديد الأمريكي بسحب الصواريخ السوفيتية من كوبا تعتبر خطوة في قمة الشجاعة، حيث أنقذ البشرية من حرب فناء مدمرة لو قدر لها أن تشتعل، ودول الأيام تحدثنا بأن ما بين الهدف والنتائج خلل أزلي، فقيام شاب صربي محبط عام 1914م بقتل ولي عهد النمسا في سراييفو أشعل حربين عالميتين أتت على الأخضر واليابس.

وفي الاستراتيجية، لابد لك من خطة استراتيجية موازية للخروج من أي أزمة تنوي الدخول فيها، وبأقل الأضرار إن لم تحقق أية مكاسب، كما لا يمكنك الرهان على نجاح الخطة (ب) حين تفشل في تحقيق الخطة (أ) في مراحل استراتيجيتك.

كانت نزاعات أقطار الخليج فيما مضى وفي عهد القادة المؤسسين لا تتعدى نزاعات حدودية أو منافذ بحرية أو أراض مشتركة سرعان ما يتم احتواؤها بالتراضي وتطييب الخواطر والإيثار وتغليب القواسم المشتركة والأواصر على كل خلاف، وبهذا تمت تسوية نزاع جزر حوار وفيشت الديبل بين الأشقاء في قطر والبحرين عبر محكمة العدل الدولية، وتم التوافق بين الأشقاء في الكويت والسعودية على تقاسم النفوذ في المنطقة التي كانت تعرف بالمنطقة المحايدة أو المقسومة، وقامت السلطنة بترسيم الحدود مع الأشقاء في الخليج واليمن على قاعدة لا ضرر ولا ضرار.

الأزمة اليوم بين بعض أقطار الخليج لا تنحصر في نزاع على قطعة أرض أو بئر نفط أو عبور رعاة وتخطيهم لهذه الحدود أو تلك أو شباك صيد وقوارب صيد تاهت بهم بوصلة الملاحة، يمكن حلها والسيطرة عليها باستحضار المشتركات والأواصر والمصالح العليا لشعوب المنطقة وكياناتها السياسية، بل قضايا دولية معقدة أغوى فيها بعض الكبار أقطار بعينها فانساقت بلا وعي منها بمخاطر تلك المقامرات وتداعياتها عليها وعلى المنطقة برمتها ومن هنا فإنّ الحلول ستكون جراحات أليمة بمبضع الكبار وحدهم ممن رسموا الدور وأعدوا الشراك ونصبوها بإحكام.

ما يمكننا القول في هذه العجالة عن هذه المحنة الكبرى التي تحيق بالمنطقة، أننا ندفع ضريبة عدم وعينا بأهمية وجود ميثاق شرف سياسي وإعلامي نحتكم إليه يحدد سقف خلافاتنا وفضيلة تنوعنا واختلافنا، ويقطع دابر التحريض والفتن والفجور في الخصومات وكي لا نعيد إنتاج الفشل ونكأ الجراح عند كل خلاف يعترضنا كبشر كتب علينا الخلاف والاختلاف كون الناس لا تتشابه إلا في صمت القبور. كما كتب علينا أن نكون مسلمين رحماء فيما بيننا وعرب أنقياء في خصوماتنا وثأراتنا. فلا يعقل أن ترهن مقدراتنا وجغرافيتنا وتاريخنا وأواصرنا ومصائرنا وأعراضنا وأسرارنا في كل خلاف بأيدي وبتصرف من لا يعقل ولا يتدبر ولا يتعظ، وتعرض الشعوب والمقدرات للمزاد والمزايدة وكأنّها أملاك خاصة، فإلى متى تكون الشعوب في الخليج آخر من يعلم وأول الضحايا!؟ وإلى متى سنتمادى في ممارسة دبلوماسية القمة بكل محاذيرها ومجاملاتها ونتجنب تأصيل المواطنة الخليجية الواحدة والدبلوماسية الشعبية المؤثرة والتي لا تتحقق إلا عبر تفعيل دور النخب وتشابك المصالح التجارية وتعزيز الأواصر الاجتماعية والتي تجذّرت في شعوبنا لقرون خلت لتشكل جميعها نسيجًا صلبًا لحماية أقطار الخليج وأمنها ومصالحها ومنع المزالق والمزايدات والأهواء!

قبل اللقاء: نسأل الله أن يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه إنّه سميع مجيب.. وبالشكر تدوم النعم.

Ali95312606@gmail.com