د. سيف بن ناصر المعمري
نحنُ منذ زمن نشهد ولادة خليج جديد غير الخليج الذي تظهره الصورة البصرية الواقعية حيث الازدهار يخفي خلفه شقاءً لا حدود له، وحيث البنايات الشاهقة تحجب البيوت الصغيرة، وحيث الخير الذي يتحدَّث عنه كثيرون يحمل شراً لا أحد يُطيقه، وحيث الأخوة تحمل غيرة وحقداً لا علاج له، وحيث العدالة والمساواة تخفي تفرقة وتمييزاً، وحيث الدين يُؤخذ منه ما يدعم الباطل ويُترك منه ما يسند الخير، وحيث الناس توحدهم المظاهر ويفرقهم الجوهر، وحيث القلوب والعقول تتحد حول الباطل وتحامي عنه وتختلف أمام الحق، وتجند أنفسها طوعًا لخنقه، وخنق أهله، وكأن الباطل من كثر شيوعه أصبح حقاً، والحق من شدة ضعفه أصبح باطلاً.
ولذلك شعر البعض بمسؤولية أخلاقية ودينية لمُحاربة الباطل في أماكن أخرى وإحقاق الحق وقدَّم الشباب قربانًا لهذه المُهمة المقدسة، وفُتحت الخزائن بلا حدود لنشر النور في تلك الأماكن، وتنافس المتنافسون على دعم قوى وجماعات الحق، وآمن الجميع أن الله اصطفانا لتحرير عباده المُستضعفين في مناطق العالم المُختلفة ونسينا أولئك الذين يُقيمون بيننا ويعملون على خدمتنا، أولئك الذين نمر عليهم صباحًا ومساءً، لأنّه لا أحد نصفهم من المستضعفين الذين يستحقون بعض النور الذي يحمل للآخرين، لم يذكرهم ذاكر في خطبة جمعة ولا في حديث عابر فمنطقتنا مقدسة وأرضها جنة وسكانها ملائكة، وأي أحد يقدح في هذه المُسلمات أو يكشف بعض من الزيف الذي يعتريها يجب أن يخرج من الجنة، وأن تسلط عليه أصوات العذاب. ولم يكن من المستغرب أن يتهم من قبل أفراد وتسلط عليهم تلك الأصوات، ويحرموا من النعيم وتسلط عليهم أصوات العذاب، ويصورا من قبل الجميع بأنَّهم دعاة فوضى وجند ظلام يُريدون الفرقة والانقسام للمنطقة. ولكن الغريب اليوم أن تكبر مثل هذه التهم وتطالب دول كل منها يتهم الأخرى بتلك التهم، وتتحقق الفرقة التي لم يتخيلها أحد، وتبسط الفوضى سلطتها وينشط مروجوها، ويرتد محاربو الظلام لأوَّل مرة إلى المنطقة، لأنَّ الكل يدعي أنَّ هناك بقعة ظلام تتطلب زخات من النور، لأنَّه لو تمكن النور في هذه البقعة سيعم أرجاء المنطقة. ويبلغ الحصار مدى لم يبلغه من قبل حيث حوصرت كل الألسن في المنطقة من الكلام من المعنيين والمحايدين، ولم يبق غير القلوب التي يخشى أن تُعاقب على نبضها القلق على هذا وذاك، فهذا شقيق وذاك شقيق، وحيث جردت المنطقة من مخزونها من الحق منذ زمن طويل لم يبق غير نقل الحرب من الظلام إلى النور، وإلى فتح صحائف لا أحد يستغرب منها إلا أولئك الذين خدعتهم الصور والكلمات.. أو أنّهم تظاهروا بأنهم خدعوا.. أو أنهم يتظاهرون بمظهر المُتفاجئ حتى لا يهدموا الصورة التي زرعوها في أجيال تزعزت ثقتها قبل اليوم بكل شيء، أجيال أخذت من الشك سلاحاً تواجه به كل ما يُقال لها، لأنها تدرك أنَّه لا يد لها في كل ما يجري، ولا حقَّ لها في الكلام ولا الاعتراض على ما يجري، الحق الوحيد المُتاح لها هو أن تتحمل نتائج الفوضى، وأن تبكي وتتحسر على الثروات الضائعة.
خليجٌ جديدٌ يُولد ولكن بثمن باهظ، هو قدر حتمته نزعات كثيرة، وعجلت به أوهام جميلة، وغذاه كثر من الطامعين والطامحين في كل الثروة التي ينام عليها الخليج كل ليلة، لكنه يضن بها على أبنائه ويُغدقها على أعدائه من المُحرضين والمزيفين، الذين يفتحون على المنطقة أبواباً تدخل منها رياح الفرقة العاتية التي لا يستطيع أحد صدها، ويتراجع حلم الإنسان الخليجي من رفاهية العيش إلى العيش في منطقة آمنة، ومن المُشاركة في الدفاع عن مستقبله وأولاده إلى الصمت خوفاً من قول كلمة حق في زمن جائر، ما أشقى هذا الإنسان الذي تحسده كل شعوب العالم على الثروات التي تتحكم فيها دوله ولا يناله منها إلا المُشاركة في دفع فاتورة العداء التي يحملها العالم وشعوبه للمنطقة، ما أشقاه حين يصبح جزءًا من حرب في الظلام لا يعرف فيها ذنبه ولا ذنب أخيه. لقد وجدت في كتاب "النور والديجور" الذي أعاود قراءته مرة أخرى توصيفاً عميقاً لما نعيشه ويجب أن نتفكر فيه بعمق، وأنا على يقين أنه لن يرفضه إلا المزيفون من أصحاب المصالح الذين يُريدون الانتقام من المنطقة وتهدئة أحقاد قديمة يحملونها، ومما حذر منه نعيمة النقاط الآتية:
أولاً: الجهل بحقيقة ما يجري وتبعاته حيث يقول "ما أجهل من يأكل من خبز أخيه ليشبع ويجوع أخوه؛ ما أجهل من يُطلق لسانه على هواه ويعقل لسان أخيه فلسان معقول عن النطق بما في الفكر والضمير والخيال لجمرة حراقة تحت ألسنة الطغاة والثرثارين".
ثانياً: الحذر من المُشاركة في معركة لا يعرف أسبابها حيث يُحارب الإنسان في ظلام لا يعرف من هو خصمه ولا يستطيع أن يحدد هدفه "المحارب في الظلام كثيرًا ما يفتك بأصدقائه قبل أعدائه ثم ينتهي بأن يفتك بنفسه...لكن سواد النَّاس، ويا للأسف ما يزال نورهم ضئيلا إلى حد أنَّهم يحالفون أعداءهم على أنفسهم وعلى أصدقائهم فتدور رحى المعركة عليهم ويروحون يئنون ويشكون ويعاتبون".
ثالثاً: خطأ الوسيلة التي تستخدم لحل الإشكاليات مما يقود إلى عدم حلها وإلى ولادة إشكاليات أخرى، يحالف الناس الطمع في حروبهم مع الطمع، والظلم في حربهم مع الظلم والعبودية في حربهم مع العبودية وهكذا يحاربون الغش بالغش والحسد بالحمد والبغض بالبغض والاستبداد بالاستبداد إنهم يحالفون الدياجير على النور ثم يعجبون للنور كيف لا ينبجس من قلوبهم..
رابعاً: الفوضى هي دائمًا مؤشر على وجود تحولات نحو وعي أفضل وبناء أفضل فلا يُمكن أن يظل التخبط واللاعقلانية هما المسيطران على منطقة يحلم فيها عشرات الآلاف من الشباب بحياة أفضل، ومدن تختلف عن مضارب القبيلة مدن تمكن العلم والمعرفة وتحارب الظلام والرجعية، ولذا فالإنسان في المنطقة "لن يعود القهقري مهما زيف المزيفون ومهما زور المزورون وموه المموهون..والنور يعمل عمله في الظلام مهما احلولك الظلام، والفكر والخيال والوجدان لابد أن تنتصر في النهاية على غرائز (غير عقلانية)".
خامسًا: لابد من الحرص من الزيف الذي تنشره بعض وسائل الإعلام والتحليلات التي تفاقم الأزمة وتجعل النَّاس يدافعون عن وجهات نظر زائفة ويتناقلون إدعاءات باطلة، إنِّه لمن العار علينا في هذه المنطقة المقدسة التي خصها الله دون مناطق العالم بالرجاء والثروة والموقع الإستراتيجي "أن ننقاد للمزيفين والمزورين والمموهين وأن يُعمينا بريق سلاحهم عن مضاء سلاحنا وإن يكن صدئًا".
يجب أن نفكر بعقلانية فيما يجري، فالصراع الذي كان من حولنا ينتقل إلى خليجنا، ومفهوم الحق تُحيط به شوائب تجعل من الصعب تبينه، نحن أحوج ما نكون إلى قوة لا تتحرك بغير حق، من قوة توظف للإقناع بحق لا أحد يتبين معالمه، وأحوج إلى نصرة الأخ ظالماً أو مظلومًا، حيث يرفع الظلم عن المظلوم ويكف الظالم عن ظلمه، وأحوج ما نكون إلى إسكات خطابات الكراهية وتجريمها والالتفاف إلى تعزيز التماسك والتَّعاون، نلتفت إلى التنمية والشباب والجامعات والمدارس والأجيال الصغيرة ونتفانى فيه تهيئة مستقبل أفضل لها، أحوج ما نكون إلى الالتفات إلى بناء مدن المعرفة والنور، وإلى التنافس في جعل بلداننا في مقدمة البلدان في مختلف مؤشرات الحكم الرشيد وسلطة القانون والمواطنة والحوكمة.