نهاية مسيرة المعلمة خديجة

 

 

حمود بن علي الحاتمي

 

كانت آخر حصة تقضيها مع طلابها بتوزيع الهدايا على طلاب الصف الرابع وهي تغالب دموعها وخفقان قلبها بعد أنهت مهامها بنجاح وقصة كفاح لا تنتهي..

العاملة صالحة تطرق باب الصف وتنادي بصوتها الجهوري المعهود: أستاذة خديجة مديرة المدرسة الأستاذة أمل تدعوك لحضور وجبة خفيفة أثناء الفسحة بغرفة المعلمات... وهي لم تدر ما تقوله العاملة ومنهمكة في تبادل الأحاديث الوداعية وكم تتمنى أن تقضي وقتاً أطول مع طلابها وفجأة دق جرس الفسحة مؤذناً بمُغادرة الطلاب المدرسة وانتهاء العام الدراسي.

خديجة انتابتها نوبة بكاء لم تعهدها من قبل وهي تشاهد طلابها يهرعون إلى الحافلات في فرح وانهمرت دموعها ولسان حالها يقول وداعاً طلابي وداعًا مدرستي... وداعاً سبورتي... وداعًا كراساتي.. وداعا تفاصيل الحياة المدرسية. مديرة المدرسة ومُعلمات المدرسة أعددن حفلة وداع لها بعد أن أنهت خمس وعشرين سنة في مهنة التدريس...

وصلت خديجة لمكان الحدث مُثقلة الخطى وشريط الذكريات يترآى بين عينيها بحلوه ومره....سمعت عبارات الترحيب الممزوجة بنبرة لحظة الفراق الحزينة من معلمات المجال الأول ومديرة المدرسة.

كعادتها المديرة حازمة لا تُريد أن يتحوَّل الموقف إلى مأتم وعويل كعادة بني جنسها في مثل هذه المواقف قالت كلمة مقتضبة أشادت بالمعلمة خديجة وما قدمته من عمل طوال فترة عملها ونيابة عن الأسرة التربوية تتقدم لها بخالص الشكر والتقدير وتهديها مندوسًا عمانياً يحوي ما قدمته معلمات المدرسة وبعض الأمهات من هدايا للمعلمة خديجة والتي بدورها شكرت الجميع بكلمة واحدة شكرا ولم تسعفها بقية العبارات فصمتت وكانت الدموع هي المتحدث فقط.

غادرت خديجة المدرسة وكأنها تغادر بيتها لآخر مرة ولن تعود وعاد شريط الذكريات يحكي كيف كانت بدايتها في مدارس الأودية وما عانته وتتذكر طلابها الذين أصبحوا اليوم ذوي شأن كبير.. تتذكر أفضل درس نموذجي قدمته أمام المدير العام... تتذكر مشروع التحصيل الدراسي الذي قدمته على مستوى المحافظة التعليمية...تتذكر البحث الإجرائي الذي قامت به لدراسة أسباب ضعف الطلاب في القراءة..تتذكر المكر الخبيث الذي حيك ضدها بسبب نجاحها وكادت تفقد وظيفتها.. تتذكر لوحة الجيوب التي تصنعها لطلابها...تتذكر مرح العرائس الذي قدم طلابها من خلاله إبداعاتهم.. تتذكر الاحتفال بعيد المُعلم..تتذكر تكريمها بفندق قصر البستان..تتذكر الهدايا التي يأتي بها طلابها الصغار في حب طاهر بريء وعفوي من القلب هدايا قيمتها المادية بسيطة.. وردة..حلاوة..ميدالية..كأس به اسم خديجة...إلخ هدايا بسيطة لكن قيمتها المعنوية لا تقدر.

وصلت السيارة إلى البيت على غير هدى لأنَّ الفكر سابح في ذكريات مسيرة حافلة بالعطاء استيقظت على تبريكات الأستاذ محمد زوجها الذي شجعها على التقاعد لغاية في نفس يعقوب والابتسامة تعلو محياه وقد فاجأها بسيارة جديدة تحت المظلة باسمها تعبيرًا لها بهذه المناسبة.

انقطع شريط الذكريات وانشغلت بالسيارة الجديدة وعبارات الشكر تسبكها للبعل الذي لم يعهدها من قبل كثيرًا لكن الموقف يفرض ذلك

في المساء وهي تفتح مندوس الهدايا وتتفحصها وإذا هي زجاجات عطر غالية القيمة وحقائب ماركات عالمية وقلائد ذهب عيار 24..إلخ

تتلقى خديجة رسائل الشكر في الواتساب من زميلات المهنة ويذكرنها بالأيام الجميلة التي قضتها معهن وتبادلهن عبارات الشكر على ما قدمنه لها من جميل وتحمل لهن عبارات الثناء.

بعد أيام تفكر خديجة ماذا تفعل هل ستظل حبيسة جدران المنزل ولم يعد لديها أطفال جميع أبنائها بين الدراسة الجامعية والعمل.

ظلت تفكر هل انتهى دورها التربوي... لا إنه كابوس لا بد من دور.. ولسان حالها يقول لماذا لم تفكر وزارة التربية والتعليم في إيجاد دور للمتقاعدات في المدارس؟ هل فعلا هي لا تحتاج لهن؟.

ماذا لو كان هناك دور استشاري كأن يُقدمن مشاغل للمعلمات الجدد أو متابعتهن خلال الفصل الأول سيكون أجدى من الورش التدريبية التي تفتقد للعمل الميداني. لماذا لا تستفيد من خبرات المديرات المتقاعدات وإعطائهن دور من خلال تكوين مجلس أمناء لكل مدرسة يتكون من معلمات متقاعدات وأكاديميين ومثقفين يدعمون المدرسة بخبراتهم وأفكارهم.

تحسرت خديجة على هدر خبرات يحتاجها هذا الوطن.

خديجة لم ترض بدور المتفرج وتذكرت عطاء المعلم الشيخ سعيد بن مطر المسفري ماذا فعل حينما أحيل إلى التقاعد استمر في عقد حلقات العلم بمنزله تارة وبمسجد القرية تارة أخرى.. حلقات في العقيدة والفقه والنحو والصرف. استفاد منه أبناء الولاية وقصده طلاب من ولايات بعيدة.

علقت في ذهنها فكرة العمل التطوعي في مجال التدريس وهو أن تعطي الطلاب المتأخرين دراسيًا ولديهم صعوبة في القراءة والكتابة دروسًا في الغرفة الملحقة بالمسجد وإعطاء نساء القرية دروساً في التجويد وعمل حلقات تلاوة القرآن الكريم وتبنت فكرة أن المعلم دائم العطاء حيثما يكون رسالة المعلم لا تنتهي في المدرسة إنما هي مسيرة حافلة ما دام القلب ينبض وهناك حياة وحياة المعلم في عطائه.

alhatmihumood72@gmail.com